المرأة والعنف اللغوي

المرأة والعنف اللغوي

فما التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال. (المتنبي في رثاء خولة الحمدانية).

لا بدّ أن الإعجاب الشديد والعشق العارم قد برّحا بالمتنبي حتى يطلق هذه الصرخة التي تصادم بخط مستقيم الموروث التاريخي، حيث لم يعد التأنيث عيباً (إذن لقد كان كذلك في الأصل) ولم تعد خولة / الأنثى ـ المرأة/ تعاني من هذا النقص المشين.

ولنا الحق في هذه الحال أن نعتبر المتنبي / الذكر إلى الحد الأقصى في الاتجاه العام/ متمرداً على ذاته وعلى موروثه ومكوناته العامة، وعلى خياله الجمعي كي يصل إلى هذا التعبير، وإلا فإن القول يفقد كل معنى ويتحول إلى مجرد بداهة موضوعية ولفظية.

وسوف يستقيم هذا الاستنتاج إذا تذكرنا ظاهرة الوأد في الجزيرة العربية حتى لو لم تكن سائدة، وإذا تذكرنا وجه الرجل وهو يرتد إلى أهله كظيماً عندما يبشر بالأنثى.

كل ما سبق معروف لدى الجميع، كما أن أسبابه أيضاً كذلك وإن يكن هنالك بعض التباين والتفاوت في الأسباب وفي دورها في صياغة الموقف المذكور. والحق أن الوضع الذي آلت إليه المرأة في المجتمع لم يهبط من سماء صافية، بل إنه كان نتاجاً تاريخياً على قاعدة الإنتاج المادي وتقسيم العمل الاجتماعي في سياق تطور الحضارة المادية والمعنوية على حد سواء.

إن الانتقال من المجتمع الأمومي، أو من المجتمع الطبيعي (مجتمع تميّز المرأة، أو مجتمع المساواة الأولية) إلى المجتمع الذكوري ـ البطركي مرّ بتعقيدات وأشكال وتوسطات تاريخية كثيرة حتى آل إلى ما آل إليه أخيراً. وعبّر هذه الصيرورة تشكل ما يسمى عادة بالمخيال الجمعي، والذي هو وعاء الصور والرؤى والأفكار والبنى المتكونة بمرور الزمن والمترسبة من الماضي السحيق، ودراسته شكلت ولا تزال تشكل مادة جذابة للأنثروبولوجيا ولفهم السلوك البشري وتطور الوعي والبنى الفوقية واللغة والتقاليد... إلخ.

إن الخيال هذا ينعكس في اللغة ـ وهذا صحيح ـ ولكن الذي أريد الإشارة إليه هنا هو إعادة صياغة بشكل مستمر عبر اللغة التي كانت انعكاساً في الأصل، إن هنالك عملية جدلية من التأثير المتبادل / صائغ ومصوغ في آن معاً/ سواء بالنسبة للخيال أم للغة بحيث يصبح النسق اللغوي مع الزمن حاكماً إلى حد كبير في تكوين الموقف والسلوك الإنساني بشكل عام. وهذا يعني بكل بساطة أن النضال من أجل إنهاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة يجب أن يمتد إلى حقل اللغة التي يجب الحفر فيها عميقاً لغربلتها وتنقيتها من العبارات والمفردات والأفعال التي تكرّس دونية المرأة في المجتمع الذكوري.

إن هذا المطلب لا يضع العربة أمام الحصان كما قد يخيّل لبعضهم ما دمنا نشدد على أن النضال يجب أن يتركز بشكل أساسي في الحقول الأخرى، في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.. إلخ، ولكن ما دامت العلاقة بين المجال الاجتماعي والفكر من جهة واللغة من جهة أخرى علاقة وثيقة فإن من المفيد جداً أن يسير الإصلاح اللغوي على صعيد وضع المرأة جنباً إلى جنب مع عناصر الإصلاح الأخرى.

وذلك لأننا نعبّر باللغة، ونصوغ مشاعرنا باللغة إلى حد أننا نستطيع القول بحسب المجاز إننا نكره ونحب، نغضب ونرضى باللغة، وفي هذه الحال فإن العودة إلى الترسانة اللغوية الصدئة التي تحط من شأن المرأة أمر مفهوم بل مطلوب بحق، من أجل تجاوزها ولو على المدى البعيد.

ويستطيع كل واحد منا (بل يعرف) أن يعثر على مئات المفردات والحكم والأمثال الشعبية، والرؤى الذهنية التي ينطبق عليها ما سبق ولذا فإنني في حدود هذه الخاطرة لا أجد نفسي مدفوعاً إلى أثقال الموضوع بها، ومع ذلك يمكن الإشارة إلى بعضها على سبيل المثال.

1ـ إن الصورة المكونة عبر (الفكر ـ اللغة) للمرأة تحيلها إلى مجرد أنثى في أحيان غير قليلة، وإلى وعاء للإنجاب وحفظ الحياة والنسل بصفة سائدة وإلى وسيلة للمتعة والتملك مثلها في ذلك مثل الأشياء الأخرى في أحيان كثيرة، والأفعال والمفردات التي تعبّر عن ذلك تملأ صفحات كثيرة في معاجم اللغة وفي الاستخدام العام فصيحاً كان أم عامياً. بدءاً بتعريف المرأة بنسبتها إلى الأب أو الزوج أو الأخ أو الابن وانتهاءً بالتعبير عن فعل الحب الجميل بالوطء وما شابهه بالألفاظ.

2ـ المخيال الاجتماعي في اللغة وهنا يظهر الانحياز إلى الرجل ـ الذكر بشكل صفيق، لأن كلّ صفات المثل الأعلى التاريخي الإنساني الذي ينعكس في نهاية المطاف في مقولة الله حسب فيورباخ إنما هي بصيغة المذكر، بل إنه من الصعب بعد سيادة المجتمع البطركي ـ الذكوري التفكير في الله إلا من خلال المثال المذكر. وذلك بالطبع ما كان الأمر على خلافه في التاريخ الذي سبق المجتمع الذكوري.

3ـ في كل مرة نعمد فيها إلى تثنية مذكر مع مؤنث نعبر عن ذلك بصيغة المذكر كقولنا: (الوالدان أو الأبوان) وذلك للتعبير عن الوالدة والوالد. والأم والأب وكذلك فيما يتعلق بالفعل المثنى المسند إلى مثنى من مؤنث ومذكر. وبالطبع يقوم علماء اللغة على تخريج ذلك عبر قاعدة تسمّى (إذا لم تخني الذاكرة) بقاعدة التغليب. وذلك مثل القول: (المشرقان ونقصد المشرق والمغرب).

4ـ وعلى نقيض الفقرة رقم / 2/ فإن المخيال الاجتماعي المنعكس في اللغة يسند إلى المرأة ـ الأنثى كل ضروب النقص والعيب والضعف والشر المعاكسة للمثال الأعلى وصولاً بذلك إلى اعتبارها أي الأنثى المرأة توأم الشيطان بما في ذلك... كيدهن العظيم.

5ـ وفي كل الأحوال ثمة إسطورة، قصة، رواية، واقعة تاريخية، ما شئت سمّها هي حكاية آدم وحواء وخروجهما من الجنة، أقول ثمة حكاية مفعمة إلى حد الانفجار بدلالات عميقة جداً عن صيرورة العلاقة بين الرجل والمرأة وموقع كل منهما من الحياة والسعادة والمعرفة وأنسنة الإنسان وتعرفه على ذاته بما هو كذلك ويهمنا هنا بالإضافة إلى كل ذلك المفردات التي عبرت بها اللغة عن هذه الصيرورة وهي متاحة للجميع.

6ـ أختم هنا بمثال عاميّ يصعب فيما أريد وهو المثل البدوي القائل: مصباح الحيّة ولا مصباح (البنية) والمقصود: رؤية الأفعى صباحاً ولا رؤية المرأة، وفي النطاق نفسه أورد حكاية تاريخية فصيحة كي تكتمل الدائرة: (في مجلس ضم عبد الملك مع بعض مشاهير الرجال، قال النعمان بن بشير الأنصاري وهو من أشراف / يثرب ـ المدينة/: إني وأيم الله لأكرهك يا عبد الملك، فأجاب الأخير: أما تحترمني يا نعمان، فقال النعمان: بلى، فأغلق عبد الملك الحوار قائلاً: إنما يبكي على الحبّ النساء.

فهل في العبارة الأخيرة ما يكفي من الدلالة على ما ذهبت إليه؟
 
رابطة النساء السوريات

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon