ألن يعود حبيبي

ساحة الضيعة تشهد حركة غير عادية، بعض الأهالي يُحضّرون زوّادة لأبنائهم، بعضهم الآخر منهمك بتدعيم بوابات القرية الخشبية، أعلام ملونة تتدلى من نوافذ البيوت الحجرية، الجميع بانتظار أخبار المعركة التي ذهب إليها العسكر ليردوا اعتداء المعتدين.

افترشت الصبايا ركناً يُطلّ على الطريق الرئيسية.عذارى الجبل يترقبن وصول رسول من ساحة القتال، بينما راحت أيديهن تتابع نسج "اللفحات" الحريرية الملونة التي ستطوّق أعناق القادمين المكللين بغار النصر.
-لَفحة الحرير من إيد الصبية.. لفحة الحرير يا جوانح غنية، يا حكاية جبلنا.. وهدايا مغازلنا، لكل بطل من جيشنا.. من جيش الحرية.

همستْ "سلمى" وهي تتابع الحياكة: "أنور" يحب اللون الأخضر كلون عينيّ، آه يا رفيقاتي هل أراه عائداً.؟كم أتشوق لتطويق عنقه بلفحتي الخضراء.. بعد أن طوّق قلبي ومشاعري، وسار بي إلى عوالم لا تعرف إلاّ الحب، سأدفن وجهي في صدره، وأتنشق أنفاسه، وليقف الزمن هنا.. لتقف الساعات والدقائق، فأنا على صدره أمارس طقوس عبادتي.

"كيف لا تكون الحرب مقدسةً وقد مات فيها ابني" قالها جبران على لسانِ أمٍ في "رمل وزبد"
من "عودة العسكر"

تُطرقُ "ليلى" لحظات.. وكأنها تسترجع ابتسامة"دياب"، وتُطلقُ مناجاتها أمام رفيقاتها:
قال لي يوماً: أنظري إلى السماء الزرقاء كم هي كبيرة، في قلبي الصغير هذا حب يفوق مساحتها، أحلى من نجومها.. أَوضحُ من سُحبها.. أطهرُ من مطرها.. أنقى من ثلوجها، "دياب"يحب لون السماء، أنسج لفحة زرقاء كي تحتضن وجه، وتجلب إليه الدفء بعد أن حول صقيع وحدتي إلى دفء دائم.

"هالة" تنسج لفحة رمادية لـ " نعمان".. و"زينة" تحيكُ الوردية لـ "نصار"، أما نجلا.. حلوة الحلوات فهي صامتة تكبح ضجيج روحها.. تحيك لفحة حمراء قانية بلون تفاح تلك الشجرة التي شهدتْ عهداً قَطعه لها "سالم": سأجتاز بحار العالم إن كنتِ هناك.. لقد أيقظتِني من رقاد حياتي.. وناديتِني إلى صفاء عالمكِ، فأضاءت شعلته ظلام نفسي، سأتبعك إلى أقاصي الأرض يا نجلا.

تتشارك الأيدي والقلوب، وتهمس شفاه الصبايا:
-نحنا حَيّكنا اللفحات الحلوة.. لكل بطل لفحة من ايد الحلوة.. نجلا ضحكي يا نجلا.. ليش صفنانة
 يا نجلا..
- قلبي دايبْ عا سالم.. يا ربي تردّو سالم
- لا تخافي عا سالم.. عا هالشب الأسمر.. يلي بضربة سيفو رماحن بتتكسر.. سالم هالحامل عا زندو العزّ وبيقلبو الأرز.. وعَمْ بيقود العسكر.
غبار من بعيد يتراءى للفتيات المترقبات.. لحظات ويظهر "عبدو" رسول العسكر إلى أهالي العسكر، يَتحلّق الجميع حول الرسول:
- أي يا عبدو حكي ياعبدو.. وين صار العسكر يا عبدو
- بالساحة هللق تا وصلوا.. أي هللق بعدن شي طللوا
- شو أخبارن.. كيف أحوالن
- لاقاهم الجبل كللو
- صبرنا والله صَبّرنا وبالنصر القاطع بَشّرنا.. أي يا عبدو حكي يا عبدو.. الله محييّ عسكرنا.
- كان الليل.. سنابك خيل.. ركبنا عالخيل وطرنا.. كنا قلال وبس رجال، قلال وعالأعدا كترنا.. صار السيف يقارع سيف ويسكَر مجد ويسكرنا.. وراح نهار وطَلّ نهار.. بنصرو القاطع بَشّرنا.

يَختلط الأهالي بأولادهم العائدين.. حشود ملأت الساحات.. أبواق النصر تصم الآذان.. الصبايا يتراكضن بحثاً عن أبطالهن.. ويطول العناق.. لكن الدم يتجمد في عروق الجميع بعد صرخة مدوية:
- سالم وين هو سالم.. سالم ما شفتو سالم؟
تُبللُ دموع القلق مآقي حلوة الحلوات.. وتهيم بين صفوف رفاق "سالم" الواجمين حزناً:
- من منكم رأى "سالم"؟ أين تركتم فارس الجبل؟ أجيبوني يامن كنتم مع حبيبي؟
تبحثُ أنظار الأهالي عن قائد العسكر.. لكن أنظارهم لن تجد من صار ملاكاً حارساً في سماء الأرز..
- ألن يعود حبيبي؟ أين سالم؟
يَتسمّر العسكر.. ويسترجعون لحظات أليمة، تتطلع نجلا إلى نعمان.. ثم تحدّق في عيني أنور فأفرجتا عن بضع قطرات كانت كافية لتدرك الجواب.
- أين تركتم حامل الراية.. في أي حفرة ثلجية وضعتم حبيبي؟ من يحمل الدفء إلى أوصاله.؟
تتجه أنظار الأهالي إلى نجلا.. وهي تُحاكي لفحتها الحمراء:
- حَيّكنا اللفحات الحلوة.. وسالم كان يحبا حمرا.. كلن طَللو لبسو ودفيو.. وحدا هاللفحة رَح تبقى.
عذارى الجبل يُطلقن العنان لمدامعهن.. ويكتحل فرح النصر بحسرة الفقدان، لكن صوتاً آتٍ من خلف الجميع خاطب نجلا:
- لا تخافي سالم غفيان مش بردان.. نايم عاتلّة.. بتضلّ تصللي.. وناطر زهر اللوز بنيسان.. بقلبو الإيمان.. ومغطى بعلم لبنان.
اقتربتْ أم "سالم"واحتضنتْ حبيبة فارس الجبل.. وذهبا إلى هناك.. إلى أقدس بقعة من ثرى الجبل..
إلى حيث رقدَ قائد العسكر معانقاً عَلمه.. فاحتَضَنتْ نجلا الحجر الكبير وَتَوّجتهُ بلفحتها الحمراء، بينما راحت أيادي العسكر تلوح بلفحاتهم الملونة.. وتطلق حناجرهم ترتيلة لفار س جبلهم:
سالم صار برج مصوَّرْ.. صار القصة اللي بتتخبرْ.. غَلب وبدو يرجع يغلب.. راح وبدو يرجع أكبرْ.
وَزَنّرَتْ صبايا الجبل حجارة المثوى.. ورحنَ ينشدن:
راجعْ بصوات البلابل.. راجع بغناني الحصادين.. طاللْ من أصوات المعاول.. راجع بفراريع الحطابين واقف عابواب القناطر.. جايّ مع هباتْ الأشعارْ.. ايدو عم تزرع البيادر.. صورو مضويّة بصدر الدار..

*- ثرثار يعتذر إذا وجدتم/ن هذه الورقة مبللة، إذ لم يجد وسيلة لإبعاد الدموع..

ثرثار
ثرثار سوف يعيد الإصغاء إلى رائعة الأخوين رحباني وفيروز"عودة العسكر"، مساء يوم الأحد القادم، 28/2/2010، لنتشارك في الإصغاء..


زاوية "كلمتين وبس"، (ألن يعود حبيبي)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon