لطخات على قلب الياسمين

نفض البيت الدمشقيُّ الكتوم بابَهُ منها، فخطتْ بتثاقل في زقاق غدها الكئيب، تتكئُ على جدران روحها المتداعية.

لطالما كرهت -وكأنها قد حدست يوماً كهذا- تلك الحارات التي جُنَّ بها الرسامون، وخلّدوها بلوحات جالت العالم، وصارت رمزاً قاصراً لوطنها الكبير الأحبّته.

كلّما زارت خالتها هنا، كانت تحسّ في فراغ الأزقّة تنهدات أنثى أسيرة وزئير شارب مفتول.
كانت تحدّث نفسها، هي التي من تخصصها بحث علاقات مجتمعها:
إنّ مدينة بلا نساء لن ترى النور يوماً إلا من شقوق الألم ومن خلف خمار الكبت.

عندما فتح نذير -ابن خالتها- الباب فوجئت بوجوده لم تذكر خالتها لها على الهاتف منذ يومين احتمال قدومه. اعتذرت على الإزعاج إثر ملاحظتها أنه قد أفاق لتوّه من النوم، وسألت عن خالتها.

سكتَ برهةً كما ليفتح ستائر النعاس... ثمّ دعاها للدخول.
كانت تشعر في حضوره بضيق لم تستطع تجاوزه أبداً، ربما... نظراته الغريبة وصمته الذي نما كأعشاب ضارة في بستان مراهقته.

في زمن بعيد كانت تأتي برفقة أهلها زيارات صيفية متباعدة خبرت فيها أولى مغامرات الخروج من فضاء قريتها البسيط المفتوح إلى فضاء معقّد، وبالرغم من موسيقى بحيرة الفناء التي طالما خدّرت أعصابها، ونسجت مع عطر الياسمينة شبكةً، عجزت هي كفراشة ألا تعلق بها ؛إلا أنها كانت تحسّ نوافذ الغرف المتشابهة الملتفّة حول الفسحة خناجر حرس في عنق لحظاتها المختلسة مع أحمد ابن خالتها.

كانت ألعاب الطفولة الغابرة بريئة... لكن! لا تخلو من براعم رغبة.

ثمّ باعدتهم الأيام، وتلك الأحاسيس تلاشت في الزمن كستائر الغسق في تباشير الصباح وبقي خرير البحيرة،وضوع الياسمينة كشاهدة فوق قبر تلك اللحظات.

أحمد أنهى دراسة معهد تقني وسافر بحثاً عن عمل،نذير لم يجتز امتحان الإعدادية فتطوّع للخدمة العسكرية.
وكلما نأت بهم الدروب... غامت المشاعر.

لم تكن تدري قبل اليوم كلّ ما راكمَه البعد والحرمان، ومفارقات الفشل والنجاح في تلك النفس المرهَقة لنذير.

لم تكن تدرك يوماً كيف كانت ترسم بضحكاتها العذبة وجسدها المتفتح تفاصيل خياله، وتلهب أحر رغباته..

انتشلها القلق من نشوة غناء البحيرة. نهضت عن الكرسي لتوقظ خالتها التي لم تعتد أن تتأخر بالنوم هكذا فتحت الباب وفتشت الغرفة بعينين مذعورتين... فردد الصمت رجفة صوتها.
كان الوقت قد تأخر لتقرر الهروب من عالم الرعب ذاك.

دفعها نذير داخل الغرفة وأقفل الباب، وبين تقافز ومناورة فجّر سدّ الصمت القاسي ليتدفّق كلام السنين شلالاً يدمّر كل ّ أمل.

انسكب كلامه خارج قلبها. كان كل همها كيف تهرب من مأزقها، وكيف تمنع هجومه البربريَّ من تدمير حضارة جسد ٍ بنتها همسةً بلمسةٍ مع حبيبها صادق، وتهشيم رُقُمها.
كيف تقنع عقل سمكة بأن الماء يخنق... وأنه يحتسى ليروي.
كيف تجادل منطق محارب بألفبائية جسد امرأة.

هاجمها كمجنون بعينين فارغتين، نزع قميصها الذي كان ينسل ّ بغنج ٍ بين كفي صادق، شرّد أزراراً كان صادق يغازلها واحداً واحداً، ويهمس لها كلمات السحر ليحتضنه الكهف المسحور، ويتلألأ بين يديه ولهاً.

أنتن عبق رجولة خزنته في حواسها، أحرق غابات من الحب واللهفة، أعدت لها دروب أيامها.
ثم غادر جسدها شراعا خلِقاً في مهب الألم، وجلس بعيداً يسند رأسه براحتيه، ويواسي نفسه:
- لستَ وحيداً. عذراء.
لملمتْ نُدف أحاسيسها ومضت في تلال أفكارها...
أتحاكمه بالقانون... تُهشِّم قلب خالتها، وتنصب سمعتها دريئة لخناجر الرماة، فترمي غدها حجر نرد وحيد الاحتمال...
وهل القانون يعرف أصلاً أن لأنوثتها موازين أخرى غير العرض والأعراف...
أم تتركه وحشاًطليقاً يقتات قلوب العصافير.
خطواتها فوق جلد الطريق الفارغ، تدق طبولاً وثنية ترددها جدران تلك الأزقّة. وترنّمها أسوار عالية صممت لتقاوم آلاف السنين من التطوّر.
كم يلزمها من الوقت لتنزع إكليل شوك ومساميرَ دامية من قلب ذاكرتها.
كم لها من الإيمان لتهزم تسلط أنبياء افترسوا الفراشة المتراقصة فيها، وكم من القوة لتكسر رجال حرب داسوا بأحذية كثيرة القيود تويجات وردة نبتت في الصخر.
هي تمشي والدرب يرجع... تلألأت ذكرى حبيبها كحبة ندى فاجأها نور الفجر وراح ينسكب حولها قوس قزح مرتعش.


سهير فوزات، "زاوية مفتوحة"، (لطخات على قلب الياسمين)

خاص: نساء سورية (23/2/2010)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon