حاضنةً جسدها الجميل كانت واقفةً تحت سياط المطر في مساءٍ كافر, شم أنفاسها البرد اللعين فبات يعاكسها حيناً ويراقصها رقصاتٍ سريعةٍ في مكانها أحياناً أخرى. نظراتها تبحث بين جموع الناس الراكضين عن وجه شابٍ ما, خصلات شعرها الذهبي بدت ـ ووجهها الملائكي المعانقين لقطرات المطر ـ كسيمفونية عشقٍ تعزف خلف الأبواب الموصدة ليلاً. رمقته من بعيد, عيناها الواسعتان الجميلتان أصبحتا بوسع الكون, للمرة الأولى بعد طول زمن, ومنذ أن بدأ المطر بالهطول, هجرت تينك اليدان صدرها وانطلقت القدمان مسرعتين نحوه, لم تنتظر النظر إليه أو السلام عليه كي ترتمي في حضنه وتعانقه بجنون وارتعاش, دموعها التي غطت وجهه كانت أغزر من قطرات المطر الهاطل. ضمته إلى صدرها بشدة عسى الخوف والبرد يفارقانها كما عودها الفعل دوماً, لكن في هذه المرة ـ وهي تضاجع صدره ـ لم تشعر بما كانت تشعره سابقاً, بل على العكس, فالخوف والبرد اغتصباها تماماً, في خضم هذا المعترك الأزلي بين عوامل الطبيعة تمنت أن يرسم قبلةً ما على شفتيهاـ وظلت الأمنية حبيسة اسمها..! رفعت رأسها متأملةً ألا ترى في وجهه ما تخشى رؤيته, وجهه كان مستتراً بقناعٍ من البرود والشحوب, تملكها الرعب والدهشة, نظرت في عمق عينيه المسافرتين في البعيد, حاولت ردّهما عبثاً, مسكته من كتفيه وشرعت تهزه بقوة وهو كالميت واقفاً, ابتعدت عنه ويداها المرتعدتان تغطيان وجهها التعب, عيناها شرعتا في القفز من وجهها -الذي تلاشى لون الدم منه- والهروب إلى أرض ٍ أخرى, عاودت استسلامها للبرد اللعين لكن لسبب آخر هذه المرة, تمعنت في وجهه.. ثمة شيءٌ لم تنتبه إليه آنفاً, فموطنا عينيه كانا كقبرين بلا موتى, نادته باسمه وكأنها تشك في هويته, لم يرد, نادته أخرى, ظل على حاله, صرخت فيه وصرخت معها دمعتان لالشيتان وهو كتمثالٍ لا تسقطه قوةٌ في الدنيا. استكشفت ما كان حولها قبل قليل, لم ترى شيئاً سوى مساحةٍ واسعةٍ من فراغ ٍأسود حالك, تماماً كما قال لها العرّاف, لم ترد تصديق ذلك. لا أحد سواه من بشرٍ أو آلهةٍ ينجيها مما هي فيه, ركعت أمام جسدٍ مبتورة روحه, تضرعت.. توسلت إليه ببقايا دموعها: ـ أرجوك حبيبي.. استجب لنداء القلب ولو للمرة الأخيرة في العمر.. أنا.. أنا الآن بلا موطن.. بلا انتماء.. أنا الآن روحٌ هجرت جسدها.. أتدري بالخراب الذي سبته خلفي؟.. أتعي شيئاً عن المجازر وحملات الإبادة التي ستُرتكب لو مستني عينٌ في وجوههم الهلامية؟.. حاولت أن تبث الأمل في نفسها وفيه: ـ كنتَ.. كنتَ قد حدثتني مراراً عن جنةٍ توجد في مكانٍ ما على هذه الأرض.. وعدتني حينها بزيارتها والإقامة فيها.. أتذكر ذلك؟.. وها أنا قد قدمت الآن مصطحبةً معي حقيبة أحلامي وآمالي كي نلجأ إلى تلك الجنة..ترى.. ما هو نوع اللجوء الذي سيمنحوننا إياه هناك؟.. أهو اللجوء السياسي أم الديني؟.. أم الإنساني؟.. لا يهم ذلك.. المهم أن نكون سوياً.. نهضت بعد أن كانت قد مسحت دموعها سابقاً وهي تحاول زرع الأمل في نفسها وفيه, مسكت يده الباردة كجليدٍ قطبي وشدته للسير معها ـ هيا.. لنذهب.. قوة السحب ـ التي بذلتها وذهبت عبثاً ـ ارتدت عليها فأرجعتها إلى الخلف... نظرت في وجهه مطولاً... أدركت منه جرمها حينما هربت بحبها وبراءتها من براثن عاداتٍ وتقاليدٍ آثرت أن تفرض هيمنتها الأزلية عليها... لكن قطارا التوبة والاستسلام فاتاها فإلى أين المفر والحبيب يعوي لراياته البيضاء؟.. كل هذا فجّر براكين غضبٍ في صدرها فأبرقت كفها خده بصفعةٍ تردي الموتى... الآن تحرك في عروقه دمٌ ما فلاحت العينان في وجهه.. نظرها بغضبٍ أفرحها.. لم تكترث بالمسبب مادام الشعور قد عاد إليه.. لكن.. كان العلم به ضرورياً.. فحبيبها هذا انتفض لانتفاض رجولته الشرقية فأبت قبول الإهانة من أنثى... من جديد وكما يورق الربيع إثر طول شتاء عاد الأمل يلبسها فتوقعت من رجلها ثوراتٍ كونيةٍ لا تنتهي في حين أنها ستدرك فيما بعد أن ثورته حينما تشتعل ستبدأ بحرقها هي أولاً.. نظر الدرك الأسفل في عينيها.. قبّل خدها المحمّر بصفعةٍ ملتهبة.. للحظاتٍ غير قصيرةٍ ظلت حبيسة المشهد المرتجل الخارج عن سيناريوهات العشق والهيام.. دنى كفها ـ بخجلٍ ـ من الخد المخدر.. تحسسه بدون معنى... الآن ما عادت تفقه من الحاصل شيئاً... وقع رأسها -الذي كان أبدي الشموخ- على الرصيف الدامي.. للمرة الأولى منذ أن أتى تحركت القدمان المسمرتان في مكانهما.. ظنت أنه سينحني ليحمل لها رأسها.. أذابت قطرات المطر مواطئ القدمين الراحلتين بينما ظلت هي تنتظر انحنائه لحمل رأسها الشريد!!!!!!...........
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon