المرأة العربية في منظور الدين والواقع.. "دراسة مقارنة"- 4

من اللغة والأساطير، عبر الأمثال المعبرة عن ثقافة عامة، إلى النصوص الدينية، تنتقل الكاتبة جمانه طه في دراستها المقارنة حول وضع المرأة في منطوق الثقافة والنصوص الدينية..

وهي الدراسة التي كانت قد نشرها اتحاد الكتاب العرب في عام 2004.
قراءة متأنية ومتفكرة هي ما يتضمنها الكتاب الذي بادرت الأستاذة طه إلى تقديمه لقراء "مرصد نساء سورية". والذي سننشره تباعا، ثم سيتم جمعه كاملا لضمه إلى قائمة الكتب المجانية المتاحة على الموقع.
الشكر الجزيل من "مرصد نساء سورية" للأديبة جمانه طه..
لقراءة الجزء الأول.. انقر هنا..
لقراةا لجزء الثاني.. انقر هنا..
لقراءة الجز الثالث.. انقر هنا..



الفصل الخامس
ملامح نسائية

جمانه طهلا يم بناء حضارة حقيقية، إلاّ بإقامة توازن بين تراث الأمس وحداثة الحاضر، وبالاستعانة بحضارة الماضي لاستنهاض الحاضر، وإغنائه بكل ما يحفظ للمجتمع أصالته ويكفل له الانفتاح المثمر. فالتراث هو امتداد الماضي في نفوسنا وعقولنا، والحاضر هو الواقع الذي نعيش فيه، وهو منطلقنا إلى المستقبل.
((فالنهضة، كما يقول محمد عابد الجابري، لا تنطلق من فراغ بل من الاتنظام في تراث. والشعوب لا تنتظم في تراث غيرها، بل في تراثها هي. إن تراث الغير، صانع الحضارة الحديثة، تراث ضروري لنا فعلا، لكن لا لنندمج فيه ونذوب في دروبه))(1).
وإذا كان لا بد لكل أمة من تاريخ وتراث تستند إليه وتنطلق منه بخطى ثابتة واثقة، مصممة على ارتياد كل جديد، فنحن العرب لا نشكو من انعدام ذلك ، بل العكس هو الصحيح. وغنى الأمثلة الجيدة في تراثنا يجعلنا أمام مسؤولية كبيرة، هي أن نكون جديرين بهذا التراث وألاّ نفرط به. ليس بحفظه فقط وإنما بالتواصل معه والأخذ من إيجابياته، كي نظل أحياء به ويظل حيا بنا.
وتراث أية أمة يتميز بالخصوصية والعمومية. فالخصوصية هي التي تنبع من البيئة ومفرداتها، وتسمى بالتراث الوطني أو القومي. أما العمومية فهي التي تنتج عن تلاقح الثقافات المختلفة، وتفاعل الشعوب بعضها مع بعض. فلا حدود ولا سدود تستطيع أن تحول دون انتشار الثقافة أو انتقال الحضارة، ما دام الزمن لا يتوقف، والتأثير والتأثر مستمرين، وكل جيل يأتي هو امتداد لجيل سبق.
وفي هذا المعنى يقول الجاحظ: ((ولو لا ما أودعت لنا الأوائل في كتبها وخلّدت من عجيب حكمتها ودوّنت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم، لخسّ حظنا من الحكمة وضعف سبيلنا إلى المعرفة.))(2)
وتأكيدا لاستمرار الماضي المضيء في حياتنا وثقافتنا، رأيت أن أذكّر بأدوار بعض النساء، في مراحل مختلفة من التاريخ وفي أماكن مختلفة ومناسبات مختلفة، كانت في معظمها أدوارا ذات فعالية بناءة تدلل على الحضور الكبير للمرأة في كل زمان وفي كل مكان، وعلى فضلها في عالم الحضارة والمدنية.
ويهدف التذكير بالأدوار والمواقف المتخيرة، إلى تسليط الضوء على أنواع مختلقة من علاقة كانت قائمة بين الرجال والنساء، على نحو قد يزيل عنها الغموض ويساعد على فهم طبيعة هذه العلاقة. ولعلّ في ذلك محاولة لهدم النظرة الدونية الموجهة إلى المرأة، ولاستعادة التواصل الإيجابي بين الرجل والمرأة على أساس من الاحترام والتكافؤ الفكري وأحيانا السياسي، لعلّنا نتخلص من الصراع المصطنع الذي تحالف على صنعه الغرب والموروث الاجتماعي والثقافي، وتقبلناه على أنّه من المسلمات.
كما أن هذا التذكير، يضعنا في الإطار العام للمجتمع الذي أفرزها، لفهم دواخل هذا المجتمع أو جانب منها. فمن بعضها نستشعر ازدهار الديمقراطية وتألق الحرية، وفي بعضها الآخر نكاد لا نلمح أثرا لها. وإذا لمسنا في بعض المواقف إنسانية المرأة وسمو أهدافها، فإننا نقع في مواقف أخرى تحت وطأة تسلطها وقسوتها، التي قد تصل إلى حد قتل أحد أقربائها أو تدبير قتله. وهذا بمجموعه يدل على الاضطراب القائم في العلاقة الاجتماعية، وفي البيئة النفسية لصاحب الموقف.
ولا شك في أنّ المواقف التي تمثلت في حياة هؤلاء النسوة، تؤكد وعيهن الكامل وانفتاحهن على قضايا مجتمعهن، وقدرتهن على مواجهة التحديات المحيطة بهن في الساحة العامة، ((وهذا بفضل الظروف الطبيعية التي كفلت لهن إمكانات النمو الروحي والعقلي والالتزام العملي بالمستوى الذي تتوازن فيه عناصر الشخصية بشكل طبيعي في مسألة النمو الذاتي))(3).
وهناك حقيقة لا بد من التذكير بها، هي أنّ قيمة المرأة العربية لم تكن تتناسب في أي عصر من عصورنا، مع العدد المتميز من النساء الذي قدمته لنا هذه العصور، ((فالمرأة في التاريخ العربي، عنصر مكوّن فيه. وهي في تحركها أو جمودها علاقات منتشرة ومنبثة في جنباته الظاهرة والخفية، وفي تكوينه وحركته، شأنها في ذلك  شأن الرجل الذي هو العنصر الثاني المكوّن فيه. ولذا من غير الطبيعي، إن لم يكن من المستحيل، عزل سيرتها في هذا المجتمع أو تأطيرها ضمن حدود معينة لا تجاوز فيها))(4).
فالمرأة لعبت لدى العرب دور الملهم والحافز إلى جانب دورها مبدعة، ولعل هذا الدور لا يقل عن دور الإبداع، إذ أنّها هيأت بعبقريتها أيضا لعبقرية الأمة في مجموعها. فأسهمت إلى جانب الرجل في بناء كيان الأمة وترسيخ وجودها، منذ نهضتها الأولى وحتى الآن.
ولا بد من الإشارة، إلى أّن بعض النساء العربيات في المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام، أسهمن بمواقف كان لها تأثير واضح في سياسة القبائل من حيث تحالفاتها وحروبها. كذلك كان للمرأة العربية في المراحل الإسلامية اللاحقة، مواقف مؤثرة متميزة. وجميع هذه المواقف، على الرغم من فرديتها لم تبتعد عن صيغة التعميم، فقد تعدت هذه المناسبات الفردية حدودها الخاصة إلى الحدود الجماعية فخلدت واستمرت.
فمن الصعب ألا نتذكر ولاسيما في أيامنا الحالية (الجمانة بنت قيس)، التي استطاعت بحكمتها ومحبتها لأهلها، أن تحقن دماء قبيلتين عربيتين. فقد روى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن خلافا نشب بين قيس والربيع حول درع أخذه الربيع عنوة، فأتت الجمانة إلى جدها وقالت له: "إذا كان قيس أبي فأنت جدي. وما يجب له من حق البنوة علي ّإلا كالذي يجب عليك من حق البنوة لي. إنك قد ظلمت قيسا بأخذ درعه، والمعارض منتصر والبادي أظلم. إلى أن تقول له: الحرب متلفة للعباد وذهّابة بالطارف والتلاد، والسلم أرخى للبال وأبقى لأنفس الرجال. فصدع الجدّ برأي حفيدته، وردّ الدرع إلى قيس.
و(سبيعة بنت عبد شمس)، التي أجارت قومها في خبائها حقنا للدماء في أثناء حرب الفجار، وقد وافقها على ذلك زوجها (مسعود بن مالك الثقفي) مع أنه كان في حرب معهم. وأجارت أيضا قوم زوجها بعد هزيمتهم، وفي هذا وافقها ابن أخيها (حرب بن أمية).
و(بُهيسة بنت أوس بن حارثة الطائي...-...)، التي خطبها الحارث بن عوف المريّ وأراد أن يبني بها، (وكانت حرب داحس والغبراء قد عصفت وحمي وطيسها)، فقالت له: كيف يمكن أن نستشعر السعادة والطمأنينة، وقومنا يتقاتلون ويجري الدم بينهم؟. اخرج إليهم وأصلح بينهم، ثم ارجع إلى اهلك فلن يفوتك ما تريد. فكان رأيُها حافزا للحارث على النهوض والسعي بين القبيلتين العربيتين المتحاربتين (عبس وذبيان)، حتى عمّ السلام.
و(خويلة بنت رئام)، التي علّمت  قومها ألا يناموا على ضيم، وحفزتهم على الانتقام لقتلاهم من بطني داهن وناعب، اللذين أغارا على رئام وهم نيام، حين عمدت إلى خناصر القتلى من أهلها، فقطّعتها وانتظمت منها قلادة ألقتها في عنقها، حتى تمّ الثأر.
و(رَقَاش الطائية)، التي كانت ذات حز ورأي ونفوذ، وكانت توجه قبيلة طيء لغزو القبائل الأخرى.
و ( أمامة بنت الحارث الشيبانية)، التي تركت في التراث العربي الأدبي والاجتماعي أثرا خالدا من خلال وصية قدمتها لابنتها في ليلة زفافها، إلى ملك كندة الحارث بن عمرو.
ويجدر بكل أم واعية، أن تجعل من هذه الوصايا تميمة تقلدها لابنتها يوم فرحها الأكبر، لتهتدي بها في معاملتها لزوجها وعلاقتها بزوجها.
و(هند بنت عتبة...-13هـ)، التي رفضت أن تعود زوجة إلى الفاكه بن المغيرة بعد أن شككّ يوما في سلوكها، وطلب الاحتكام في هذا الأمر إلى أحد الكهان. رفضت أن تعود انتصارا لكرامتها وسمعتها، مع أن الكاهن قضى ببراءتها.
و(نائلة بنت الفراصة)، التي عاشت محنة الفتنة على زوجها عثمان بن عفان، ودافعت عنه واتقت الضربات بجسدها حين اقتحم القتلة الدار عليهم. وحين حاول سودان بن حمران ضرب المصحف بسيفه، انكبت نائلة على المصحف فنال السيف أصابعها وقطعها.
و( أسماء بنت أبي بكر)، التي وقفت إلى جانب أبنها عبد الله بن الزبير، وحثته على المضي في طريقه دفاعا عن عقيدته وموقفه.
و(عمرة بنت النعمان بن بشير، 67هـ)، التي لم تبال بتهديد مصعب بن الزبير، ودفعت حياتها وفاء لزوجها المختار الثقفي المتهم في دينه.
و(زبيدة بنت جعفر المنصور، 216هـ)، التي أعطت مثالا على التعطف والكياسة، حين أوصت ابن هامان قائد جيش الأمين في قتاله المأمون، قائلة له: "يا علي، إن أمير المؤمنين الأمين، وإن كان ولدي فإني على عبد الله المأمون متعطفة مشفقة لما يحدث عليه من مكروه وأذى. فاعرف لعبد الله ولادته وأخوته، ولا تجبهه بالكلام فإنك لست له نظيرا، ولا تقسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد أوغلّ، ولا تمنع عنه جارية أو خادما، ولا تعنف عليه في المسير ولا تركب قبله، وخذ بركابه إذا ركب وإن شتمك فاحتمل منه"
والنفراوية (زينب بنت اسحق، 464هـ) زوجة يوسف بن تاشفين، التي قال عنها صاحب الاستقصا: "إنها كانت عنوان سعده والقائمة بملكه والمدبرة لأمره والفاتحة عليه، بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب". وقال عنها ابن الأثير في الكامل: "كانت من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاد زوجها ابن تاشفين" وقال ابن خلدون: "كانت إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرياسة".
والصليحية (أروى بنت أحمد، 532هـ)، التي حكمت اليمن بعد وفاة زوجها بتفويض من الخليفة الفاطمي المستنصر، واستطاعت بحنكتها وحكمتها أن توطد عرشها وتنهي خلافا مترسخا بين أسرة الصليحيين وأسرة الزواحيين، وتقضي بذلك على فتنة سعيد الأحول الذي أقلق من سبقها من ملوك.
و(تقية بنت غيث بن علي السلمي الأرمنازي، 579هـ) وتلقب بست النعم، التي كانت فاضلة متأدبة ولها شعر جيد. مدحت المظفر ابن أخي السلطان صلاح الدين بقصيدة أغربت فيها بوصف الخمر. فقال: لعلها عرفت ذلك في صباها! فبلغها قوله، فنظمت قصيدة أخرى حربية، وسيّرت إليه تقول: علمي بتلك كعلمي بهذه.
و(الست نَسَبْ) والدة الأمير فخر الدين، التي كتب عنها الرحالة الإنكليزي جورج ساندس، قائلا: إن ولدها لم يكن يشرع بقتال ولا يقدم على عمل عظيم، إلا بعد أن يسترشد بحكمتها ويأخذ رأيها". ويؤكد (سانتي) مهندس البعثة التي حضرت إلى لبنان من توسكانة، " أنها هي التي أوعزت إلى ابنها فخر الدين باستخدام آل الخازن وباستقدامهم إلى الشوف". وربما كان لهذه السيدة الفضل في جعل لبنان في ذلك الحين، يعيش في وحدة وطنية.
والأرسلانية (حبس بنت بشير، 1240هـ)، التي قامت بأعباء إمارة مقاطعة الشويفات بهمة عالية وعقل سديد، بعد وفاة زوجها عباس بن فخر الدين الأرسلاني.
يقول الشدياق مؤرخ لبنان: ((تولت على المقاطعة لذكائها وصغر أولادها، فساست الرعية سياسة حسنة حتى كانت ملجأ وغوثا للناس. واستمرت بحكم المقاطعة، حتى كبر ابنها أحمد وقام مكانها)).
وإذا اختلفت المواقف بين امرأة وأخرى، فذلك يعو لتفرد كل إنسان بخصائص فكرية وأخلاقية واجتماعية تميزه من سواه. وهذا التفرد يملي الاختلاف في المواقف وفي طرائق التعايش، ويمنح التعدد في الهوايات والميول والرغبات.
قرأت في كتاب (أخبار الظراف والمتماجنين) لعبد الرحمن بن الجوزي، ما يلي: "قال الزبير بن بكار: قالت بنت أختي لزوجتي: خالي خير رجل لأهله، لا يتخذ ضرة ولا يشتهي جارية. فقالت المرأة: والله، لهذه الكتب أشد عليّ من ثلاث ضرائر".
بينما نجد في معجم البلدان لياقوت الحموي وفي مادة (مهدية)، صورة تناقض الصورة التي مرت. وهي أن أبا الحسن الخولاني المعروف بالحداد المَهدوي، أخذ يبيع كتبه لضرورة حياتية. فحزنت زوجته لذلك حزنا عظيما، فوصف مشاعرها في هذه لأبيات:
قالت وأبدت صفحة                    كالشمس من خلف القناع
بعتَ الدفاتر وهي آخر                 ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على                     كبدي وهَمَّتْ بالصداع
لا تعجبي مما رأيت                    فنحن في زمن الضياع
ولن يغيب عن البال، أن مواقف الشهيرات في التاريخ ليست كلها بالمفهوم الأخلاقي والإنساني، مواقف إيجابية، وهذا أمر طبيعي تحتمه الفطرة البشرية. فالإنسان مثل الحياة له وجه خير ووجه شر، والعلاقة بين الحياة الاجتماعية وبين التركيب الاجتماعي في مفرداته الإنسانية، علاقة متناغمة مستمرة دائما.
فهناك (أم جميل، زوج أبي جهل)، التي ترجمت يداها الشريرتان صدقها مع عقيدتها. و(هند بنت عتبة، 14هـ)، التي جعلها حقدها على حمزة تلوك كبده بعد استشهاده.
وأم زمل (سلمى بنت مالك الفزازية، 11هـ)، التي لم تنافق ولم تناور في وثنيتها ولم تجامل عائشة التي أعتقتها من السبي، فارتدت عن الإسلام في زمن أبي بكر وجمعت حولها فلولاً من بني غطفان وسُليم وطيء وهوازن، فقاتلها خالد بن الوليد وهي واقفة على جمل وقاتل جموعها قتالا شديدا، وقيل: إنه قتل حول جملها نحو مائة رجل.
والكاهنة (سجاح بنت الحارث بن سويد، ت نحو 55هـ)، التي كانت راسخة في النصرانية وكاهنة من كواهن قومها، وكان لها تأثيرها الفكري فيهم. وقد دفعتها مطامحها السياسية، إلى أن تتزعم قومها بني تغلب، وتمد نفوذها على القبائل العربية في العراق. ومن أجل هذه الغاية، قادت تحالفا قبليا ووقفت في وجه الإسلام في حروب الردة، وادعت النبوة وتزوجت من مسيلمة الكذاب. لكنها فيما بعد أعلنت توبتها وأسلمت.
و(هند بنت النعمان بن بشير) التي ثأرت من الحجاج، إن صحت الرواية، بموقف ينطوي على كثير من الشر والانتقام، رغم طرافته. وذلك حين اشترطت أن يكون مهرها لزواجها من عبد الملك بن مروان، أن يقود الحجاج محملها من المعرة إلى دمشق.
و( الخيزران زوج المهدي، ت173هـ)، التي فّرطت بفلذة كبدها ثأرا لنزعة السيطرة في نفسها، فدبرت خنق ابنها الهادي لأنه طلب منها عدم التدخل في شؤون الحكم.
و(شجرة الدر، ت655هـ)، التي غلّبت مشاعر المرأة الأنثى على حكمة المرأة الحاكمة، وقتلت زوجها انتصارا لغيرتها، متناسية مواقفه النبيلة منها.
وتلك الأم، التي أوصت ابنتها في ليلة زفافها أن تقطع رأس القط وتختبر كبرياء زوجها وقوة شخصيته، فقالت لها: "اقلعي زُجَّ رمحه، فإن أقرَّ (أي قبل واستكان) فاقلعي سنانه، فإن أقرّ فاكسري العظام بسيفه، فإن أقرَّ فاقطعي اللحم على ترسه، فإن أقرَّ فضعي الإكاف على ظهره، فإنما هو حمار" (5).
ومن الملاحظ أن هناك قاسما مشتركا يجمع بين تلك المواقف، على الرغم من تباينها بين السلبية والإيجابية، إنه قاسم الصدق الغامر الذي ينبئ عن ذاته بجلاء ووضوح. فالصدق مع النفس والمعتقد، هيأ لهؤلاء النسوة ولغيرهن مكانة عالية وذكرا لا يمحى.
وإذا كنت قد حفزت الذاكرة على استعادة أخبار ومواقف بعض النساء الشهيرات في تاريخ الأدب والسياسة، فهذا لا يعني أن أنسى الدور الكبير الذي تقوم به النساء العاديات البسيطات، اللواتي يشكلن النسبة الكبرى في مجتمعنا. فهن الأمهات وربات بيوتنا وأعمدة الحياة، وعلى جهودهن ينهض المجتمع ويزدهر.
والأجيال التالية لم تخلُ من أسماء لها شيء غير يسير من القيمة، فعصرنا عصر علم ومعرفة، والمرأة سيكون لها دوما حضور في كل مفترق. وإذا كانت العوامل الاجتماعية، عموما، إلى جانب الرجل وفي صالحه أكثر مما هي في صالح المرأة، فلا بد من أن تضيق هذه الشقة في يوم ما وتنال المرأة ما تستحقه لقاء ما تقدمه للأسرة والمجتمع، ولا سيما أن الزمن قد مرّ على قول المتنبي:
وإن تكن خلقت أنثى، فقد خلقت            كريمة غير أنثى العقل والحسب

الهوامش:
التراث ومشكلة المنهج: مجلة المستقبل العربي، عدد 83، ص7.
مقبوس من مقال لمحمد طه الحاجري، مجلة عالم المعرفة، عدد 1، ص 14.
فضل الله، مجلة المعارج: الكتاب السنوي، إعداد الشيخ حسين شحادة، د.ت.، ص957.
المرأة العربية في تاريخ العرب قبل الإسلام، ليلى الصباغ، دمشق: منشورات دار الثقافة، 1975م، ص11.
كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة: كتاب النساء، بيروت: دار الكتاب العربي، د.ت.
* للاستزادة عن أخبار النساء يمكن الرجوع إلى كتب التاريخ والأدب، مثل:
بلاغات النساء، الأغاني، المستطرف من كل فن مستظرف، العقد الفريد، الكامل لابن الأثير، الإصابة في أخبار الصحابة، تاريخ الطبري، وفيات الأعيان، طبقات ابن سعد، أعلام النساء، الأعلام للزركلي.

يتبع...


جمانة طه، (المرأة العربية في منظور الدين والواقع.. "دراسة مقارنة"- 4)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon