المراة سلعة ثمينة ولكنها تبقى سلعة

يكثر في الخطاب الوعظي المحلي الذي يتحدث عن المرأة أن تردد مقولة أصبحت متداولة وبشكل كبير وراسخة ولم تعد تستثير تفكير أحد، بمعنى أنها تمر مرور المسلمات بدون نقد. هذه المقولة هي أن المرأة "مثل الجوهرة الثمينة التي يجب الحفاظ عليها وسترها وحمايتها من كل من يحاول العبث بها". تردد هذه المقولة في أكبر وأهم الخطب المحلية في المساجد والإعلام وبالتالي فإنها تستحق منا المراجعة والتفكير.
العملية هنا هي عملية تشبيه يتلوها ويتبعها نتائج عملية. التشبيه هنا بين المرأة من جهة والجوهرة الثمينة من جهة أخرى . والنتيجة العملية أن كلتيهما يجب التعامل معهما بمنطق الحفظ والإخفاء. فكما أنه ليس من المعقول أن يضع عاقل جوهرته الثمينة قريبة من أيدي الناس فإنه كذلك مع امرأته. قد يبدو هذا التشبيه من الوهلة الأولى جميلا بل ومنطقيا ومرضيا حتى لغرور الكثير من النساء اللائي تحولن هنا إلى جواهر ثمينة ولكن التأمل ولو قليلا في عمق هذا التشبيه يحيلنا إلى عمق إشكالية المرأة لدينا.
في هذا التشبيه تتحول المرأة إلى سلعة، صحيح أنها سلعة ثمينة ولكنها تبقى سلعة أيضا. وهنا ندخل إلى قضية كبيرة جدا وهي قيمة الإنسان. الإنسان فوق التقييم.أي أنه غير داخل أساسا في عملية تقييم ذات منطلق مادي وأي إدخال للإنسان في هذا المستوى فهو خطر كبير جدا يجب الحذر منه. يجب أن نتذكر هنا أن الإنسان كان يبيع ويشتري أخاه الإنسان بشكل علني وقانوني حتى وقت قريب.وبالتالي فنحن لسنا بعيدين حقيقة عن فكر تسليع الإنسان أو تحويله إلى سلعة تحت أي حجة أو عذر. سابقا كان استعباد البشر يتم بحجة أن هذه طبيعة الأمور أو أن هؤلاء الناس خلقوا للعبودية كما تخلق البهائم للأكل والمنفعة. وبالتالي فإن فكرة تسليع المرأة بالشكل الذي هنا هي عملية يمكن أن تمر ، بل هي تمر داخل المجتمعات التقليدية بدون استنكار أو شعور بالغرابة.
تشبيه المرأة بالجوهرة هو مقدمة خداعة لنتائج خطيرة وهي أنه بما أن المرأة أصبحت جوهرة فإذن فإنه من الطبيعي التعامل معها بهذا الشكل فتعالوا نر كيف يتعامل التاجر مع جوهرته وكيف يتعامل الرجل مع المرأة. يحافظ التاجر على جوهرته لأن فيها استثماره المالي، يحافظ عليها ممن يريد نقل ملكيتها إليه بدون إذنه. وكذلك الرجل يحافظ عل امرأته ، رأس ماله الرمزي، شرفه ،ممن يريد أن يصل إليها بدون إذنه. هنا تكون الم
رأة كما الجوهرة، لا وجود حقيقي لها، أي لا وجود لها باعتبارها إنساناً بل هي سلعة لا رأي لها ولا اعتبار، فهي لا تقوم بحفظ نفسها بل تحتاج دائما لمن يقوم بعملية الحفظ هذه، نتذكر هنا التشديد الكبير على مراقبة النساء وعدم ترك الحبل على الغارب،فكرة الراعي والقطيع. وكما هو ملاحظ اليوم من عدم الاعتبار لقيمة المرأة والتقليل من قيمة رأيها ومشورتها وغير ذلك.نجد هذا في البيت التقليدي المتشدد الذي لا يوجد فيه رأي للمرأة كما نجده في مجالس الشورى التي تستبعد المرأة من المشورة والرأي ويتم مقابلة أي اقتراح من هذا النوع بالتشنيع الشديد.
وكما أن الجوهرة يمكن أن تباع فإن المرأة أيضا يمكن أن تباع أيضا. تباع الجوهرة بعقد بيع صريح واضح بينما تباع المرأة باسم الزواج والمصاهرة.ونحن نعلم كثيرا من الحالات التي كان الزواج فيها عبارة عن صفقة، مالية أو اجتماعية...وهل تقام الصفقات إلا بالسلع ، بل بالسلع الغالية جدا :الجوهرة/ المرأة؟ تثار لدينا هذه الأيام الكثير من القضايا المتعلقة بعملية تزويج الفتيات،صغيرات وكبيرات في زيجات واضحة المعالم باعتبارها صفقات. هل الحل هنا يكمن في توعية أولياء الأمور بأنه لا يصح تزويج الطفلات أو الفتيات بدون أذنهن وأن عليهم أن يخافوا الله في هذه العملية. أعتقد أننا بهذا الشكل نستمر في ذات المشكلة باعتبار أننا ما زلنا نستبعد المرأة من أن تكون صاحبة القرار الأول والنهائي في هذه العملية، وألا يتم هذا الأمر إلا بقبولها الواعي والكامل وأن على الجهات الرسمية أن تتأكد من خلال عملية مرتبة من هذا القبول بدون مواربة ، نحتاج هنا إلى قانون و ألا نعتمد على عاقدي الأنكحة الأفراد في هذه العملية فهم في الغالب لا يعون هذا القضية ويتعاملون معها تعاملا تقليديا روتينيا لا أكثر. كما أننا نحتاج هنا إلى منع تزويج الأطفال، أي ما دون الثامنة عشرة ، باعتبار أن قرار الزواج هو قرار مصيري خطير لا يجب أن يسمح لأحدهم فيه باتخاذ قرار إلا وهو مدرك لما يقوم به. كيف نمنع نظاما من هو دون الثامنة عشرة من أخذ رخصة قيادة سيارة ونسمح له في نفس الوقت أن يتزوج ويكوّن أسرة!!.
المرأة إذن ليست جوهرة يجب الحفاظ عليها بل هي إنسان عاقل مدرك كامل الإنسانية يفترض أن يتمتع بكافة حقوق الإنسان المعتبرة. هنا تعود المرأة إلى طبيعتها الإنسانية بعد أن تم التعامل معها لفترة طويلة جدا كسلعة ثمينة.هذا النقل سيكون له مترتبات ومعان كبيرة جدا. فحين تكون المرأة إنسانا ، بالعرف الاجتماعي ، فإن هذا يعني أن تتبدل طريقة التعامل معها تماما. هنا تصبح إنساناً صاحب رأي وفكر وقرار يجب احترامه ،تصبح إنسانا له الحق الكامل في التصرف في قضاياه الخاصة بدون وصاية. كما له الحق في المشاركة في القضايا العامة وفق منطق التساوي. بهذا الاعتبار الإنساني للمرأة فإنه لن يعد ممكنا تزويجها بدون رضاها أو بدون أن تعلم حتى، كما أنه ليس من الممكن أن تحرم من الرأي أو من المناصب القيادية أو أن تستخرج وثيقتها الوطنية بدون محرم أو أن تحصل على رقم هاتف خاص بدون محرم أو أن تفتح حساباً في البنك بدون محرم أيضا أو أن تسافر بدون محرم أو أن تكمل دراستها في الخارج بدون محرم...باختصار أن تتعامل في هذه الحياة بدون أن يكون هناك شرط ذكوري يطاردها باستمرار.
كل هذه المترتبات على إنسانية المرأة تجعل الخطاب التقليدي المتشدد يركز كثيرا على تسليع المرأة وتحويلها إلى شيء يجعل من الوصاية عليه أمرا مقبولا بل ومنطقيا. وإن كانت الأمور في السابق لا تحتاج إلى تورية في هذا الأمر، أي في تسليع المرأة فإن الوضع المعاصر فرض على هذا الخطاب أن يقوم بعملية تمويه وتعميه على الناس من خلال عملية تشبيه تبدو في ظاهرها أنها جميلة ، حيث تصبح المرأة المقهورة في الواقع جوهرة براقة ثمينة يصعب الوصول إليها ولكن هذا الخطاب في حقيقته يعيد تكرار العملية القديمة، عملية سلب المرأة قيمتها الإنسانية باعتبارها كائناً حراً عاقلاً، وفي النهاية لا يصبح لدينا فرق بين ذلك الواقع الذي كانت المرأة فيه تورث مع التركة حين يموت زوجها وبين المرأة التي تعامل كجوهرة ثمينة ولكنها تبقى في كل الأحوال سلعة قابلة للبيع والمقايضة ومحتاجة بالضرورة إلى من يرعاها ويراقبها.


- (المراة سلعة ثمينة ولكنها تبقى سلعة)

مركز أمان، (12/2008)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon