عندما يضطرك الجوع وفقدان الأمن إلى الهجرة، ستجد نفسك هناك منفياً مشتتاً بين صقيع الغربة وغدر الأوطان. عندها أعاصيرٌ من الشوق تطرق بابك خارج أوقات الزيارة، أمواج الحنين تطوقك تأخذك إلى سماء الوطن إلى أرضه، إلى رائحته إلى كل ذرةٍ فيه.
تعيشُ صراعاً لا تعرف كيف بدأ وكيف سينتهي،تبحثُ عن هويتك الحقيقية وتمضي بك الأيام، ثم تسأل نفسك.. ماذا بعد؟ ماذا بعد الغربة؛ هذه الغربة التي قتلت فيك أكثر الأشياء حميمية، والكثير من إنسانيتك، فلكي تعيش في وطن ليس وطنك، وبين أجناس مختلفة عليك أن تضع الإنسان الذي في داخلك جانباً لتستمر. بلاد الغربة هذه بلادٌ وضعها الزمن خارج إطار الوقت، فقد تعيش وتموت في هذه المدن دون أن تشعر بالوقت كيف يمضي وبالعمر كيف يمر. لا صبحٌ هنا ولا ليل كل الأيام يومٌ واحد، كل الأشياء ثابتة لا تتغير، حتى أبسط الأمور؛ كلون الشجر مثلاٌ فهو ثابتٌ لا يصفر لا خريفٌ هنا ولا شتاء، كل الفصول فصلٌ واحد. عندما يعيش الإنسان مغترباً في بلاد التطور و التكنولوجيا تحديداً، تُمحى ذاكرته ويصبح باختصار كما الآلة الإلكترونية: بكبسة زرٍ يأكل.. وبكبسة زرٍ ينام.. وبكبسة زرٍ يعمل، حتى أنه يمكن أن يتزوج بكبسة زر! فالمشاعر والأحلام هنا مبرمجة بما يناسب الحياة. في هذه البلاد، التي كل شيءٍ فيها مباح لدرجةٍ أن الإنسان يمكن أن ينسى فيها الله فقليلون هم الذين يذكرون الله، وإن ذكروه فهذا يكون بعد اقترافهم لذنبٍ ما فرض عليهم اتقاء الله ولكن فقط للحظات، نعم فهي بلادٌ باختصار لا إله فيها. كل الأشياء الجميلة في داخلك تموت ولا يبقى إلا بضع صورٍ توقظ ذاكرتك تشعل قلبك بالشوق إلى كل بقعةٍ في وطنك ترعرعت فيها فيكون الحنين إلى ذاك المنزل القديم والزقازيق الضيقة ورائحة خبز الصباح. وإذا ما استيقظت من موجة الحنين هذه ورأيت شريط ذكرياتك يمر في رمشة عين تذرف دمعة فتمسحها وأنت تقول لنفسك مواسياً "غداً عندما أكوّن نفسي ومالي ومستقبلي سأعود وأجلس بين أحبتي وسنسترجع معاً كل تلك الأيام و نعيشها مجدداً." لكن هل سيكون كل شيء كما هو مطبوعٌ في صور الذاكرة؟! ليعود الصراع مجدداً بين لومٍ للوطن والحنين إليه فماذا بعد الغربة؟!
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon