ريما.. وبياع الخواتم

في ضيعة ملّ أهلها من سهرات" الحزازير" وأحاديث المواسم والحصاد، عَمد مختارها إلى اختراع كذبة لوّن بها ليالي الصيف الطويلة بألوان المراجل والخيال، وحرّض في نفوس أهل ضيعته شوقاً إلى أيام البطولة، وتركَ لكل واحد منهم مساحة فسيحة لتخيل أحداث أخرى تجري خارج سياق الحكاية، فراح هؤلاء يضيفون من عندياتهم مجريات تخص شخوص الحكاية لم تروَ على لسان المختار.

تتلخص كذبة المختار بردعه لأحد قاطعي الطرق أسماه"راجح" الذي كان يستعد لمهاجمة الضيعة، وروى المختار للأهالي كيف تغلب عليه واستولى على سلاحه بحضور "ريما" ابنة أخت المختار، وهكذا أصبحت بطولة المختار، وتضحيته من أجل الضيعة حديث الأهالي، كما أصبحت ريما الشاهد الوحيد على حكاية المراجل.
لكن ريما تعاتب خالها:
- لإيمتي رح ضلّ يا خالي.. تحكي وأشهد لك شو ها الحالي
-  بنت أختي إن ما شهدتيلي.. مين رح شهّد على حالي، ما فيش راجح كبّري عقلك.. خالك يا ريما اللي اخترع راجح.. هيدي يا ريما مش كذبة.. هيدي خبرية شعرية بتوعّي فيهم بطولة.. وتقطف من اشيا مجهولة.
ورغم طمأنة خالها، يتسرب الخوف والشك إلى أعماق ريما، فهي تخاف من المجهول الذي يأتي دون إذن.. ودون ميعاد:
- تعا ولا تجي وكذوب عليّ.. الكذبة مش خطية.. وعدني أنو رح تجي.. وتعا ولا تجي.
الضيعة تتحضر للاحتفال بعيد " العزابي" الصبايا يختلن بفساتينهم البيضاء، وشالاتهم البيضاء، أما شباب الضيعة فيحتفظ كل واحد منهم بخاتم خطبة في جيب شرواله الجديد، فقد يطلّق عزوبيته خلال الاحتفال، لكن شابين عاطلين عن العمل استغلا كذبة المختار، وهددا هدوء الضيعة بسرقة هنا.. وتعدٍ هناك، ونسبا تلك الأفعال إلى قاطع الطريق "راجح".
وهكذا تعقدت المسألة، وبات على المختار معرفة الأشخاص الذين استغلّوا كذبته لإشاعة الفوضى في الضيعة الآمنة، وبينما راح المختار وشاويش الضيعة يتفقدان الأزقة والزوايا بحثاً عن العابثين، كان راجح ينهض من الحكاية.. الكذبة، ويتحول إلى جسد من لحم ودم متجاوزاً مخيلة المختار.. هرب من نفق الخبرية إلى فضاء الحياة، وراح يقطع الجبال والوديان، وأصبح على مشارف الضيعة باحثاً عن المختار، فتلتقيه"ريما"وتسأله عن أسمه، فيجيبها "راجح".
 لكن راجح غير موجود.. تتمتم ريما بعد أن تحولت الكذبة إلى حقيقة، وهاهي ماثلة أمامها، وتذهب إلى خالها الذي كان يحضّر كذبة جديدة عن جولة جديدة من جولاته مع راجح كي يرويها للأهالي في سهرة موسم الخطبة:
- يا خالي إجا راجح.. وسألني عنك.
- دخيلك يا ريما قوليلي مش مضبوط.. في واحد منا حكاية.. وواحد منوش حكاية.. قولك عم احلم بنومي.. ولا كيف بنزرع كذبة.. بتكبر هالكذبة وبتصير الكلمة زلمة.
يتجمع الأهالي في ساحة الضيعة للاحتفال بموسم الخطبة.الشاويش وعساكره يطوقون المكان خوفاً من هجوم يشنه راجح، أصابع الصبايا متشوقة لمحابس الخطبة.. وقلوب الشبان تكاد تقفز من صدورهم،
ويفتتح المختار موسم الخطبة وهو مأخوذ براجح الذي خرج من عباءة الكذبة ويسعى وراءه.
- يا حلوة الدار إنتِ الحسن إنتِ الغنى.. طال الحكي عن حبك وطال الغنا.. بحمل جروحي وبرحل عا طريق البكي.. وبرجع لعندك وما لي عن هواكِ غنى.
ويصدح صوت ريما، ليصل إلى أعماق الأحراش ورؤوس الجبال..
- حيدو الحلوين عا ضو القمر.. والليل ليّل والقمر حدو نطر.. ياليلة الحلويين عا دراج الحكي يا سهر المافي بعد منو سهر.. حيدو الحلوين ضوت هالدني.. والولدنة جَرّت وراها الولدنة.. في صبي مغرور صارلو شي سنة.. ياخد خبر ويجيب من عندن خبر.
تتشابك أيادي الصبايا والشباب في" الدبكة"وتتلاقى عيون العشاق الذين ستزيّن أصابعهم بعد قليل خواتم الخطبة.. ويخيم الفرح على أهالي الضيعة، لكن صوتاً هادراً جاء من زاوية في الساحة الكبيرة حوّل ضجيج الساحة إلى سكينة عميقة:
- بَدّي قابل المختار، فيجيبه المختار:
- أنا المختار شو بدك.. وتصرخ ريما: يا خالي هيدا راجح..
تُصوب غدارات العسكر إلى راجح.. ويتجمع الأهالي حوله سائلين:
- بدنا نعرف يا راجح شو جاي تعمل بالضيعة
- أنا جاي بيع.. هدايا المحبة.. ولوّن الاصابيع.. بموسم الخطبة.. ويبدأ بتوزيع الهدايا على الخاطبين.. فتلتف العقود حول أعناق الصبايا.. وتكتسي أيديهم بأساور المحبة، وعندما سأله المختار عن ثمن الهدايا أجابه راجح بأن هذه الأساور والعقود هدية للضيعة.. لكنه يريد خطبة ريما لابنه، وتوافق ريما، وتودع خالها الذي اخترع الكذبة، وتتأبط ذراع راجح بياع الخواتم في رحلة إلى حياة جديدة.. في ضيعة جديدة.

ثرثار ينصح القراء الأعزاء بالاستماع إلى أوبريت "بياع الخواتم" للأخوين رحباني وفيروز


ثرثار، زاوية "كلمتين وبس"، (ريما.. وبياع الخواتم)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon