سوء تشخيص

منذ أن أغلقت سماعة الهاتف بعد حديثٍ طويلٍ من صديقتي وإصغاءٍ مني وأصابعي تحارب للوصول إلى القلم, تريد أن تحمّله حكاية شابٍ بعمر الورد حين يبلغ أوج عطره.

سبعةٌ وعشرون عاماً هي سنواته في حياةٍ فانية, فارغة إلا من ذكريات.

لم يتوقف عن الدراسة يوماً, طلب العلم حتى الموت, ولم يعطه العلم شفاءً أو علاجاً صحيحاً. كان مرضه (سوء تشخيص).. ببساطة وبعد عناءٍ يصدر القرار الخجول من فم الطبيب وبالإنكليزية لعل المريض لا يفهم ( سوء تشخيص).

يوسف الشاب الذي درس طب الأسنان فكان أن أحبه وقرر الغوص في أعماق علمه أكثر, لم يكتفِ بمعالجة الأسنان فاستمرّ في اختصاص جراحة الفم والفكين ليكون حاضراً في غرف العمليات, ويساهم في بناء ومساعدة إنسان فقد فكاً أو أنفاً أو أذناً أو أسنانا.. دون أن يدرك أنه سيفقد قلبه بعمرِ القمر بدراً.. قلبه الذي تصلّب تاموره فأحاط به كالقوقعة, صارت نبضاته عذاباً ومعاناةً علّه يدفع الدم إلى أنحاء الجسد الفتي, ومعه كانت رحلة يوسف المتعبة.

أخيراً سلّم قلبه لطبيبٍ أجرى العملية دون إجراء القثطرة واستكمال الفحوص اللازمة فقد اعتمد على الصور فقط ليحكم بضرورة الجراحة.. هكذا أصبح صدره تحت رحمة مبضع, وحالما فُتح القفص أطل قلبه المريض يصرخ: (أنقذوني من أصابع هؤلاء الأطباء.. من مشارطهم وأدواتهم.) وكانت المفاجأة  بالتامور المصاب بالتهاب شديد.

أجريت العملية وفق تقاريرٍ صار يُشك بسلامتها, وكان على الأمور أن تكون بخير, لكنّ أياماً أصعب أصبحت بانتظار يوسف وأهله وعروسه, حيث تراجعت صحته يوماً فآخر وبدأ الالتهاب الخلوي يغزو أطرافه السفلية, فتتورم بالتناوب لتجعله طريح المنزل وتشل حركته.

هو اللاعب في رياضته المفضلة كرة القدم, هو النشيط المتابع لدراسته, يسافر إلى العاصمة ويقف مع زملائه في غرفة العمليات ساعات طويلة ويدرس بنهم.. تلك العاصمة التي قضى أطباؤها على آماله وحياته.

يوماً بعد آخر كان يوسف ما يزال يحلم بشهادته الكبرى التي ستزين صدر العيادة, بسفره للعمل في الخارج, بعودته إلى أصدقاء الكرة ومتابعة اللعب هجوماً أو دفاعاً فلا يكون فقط ملزماً بدور حارس مرمى (كولار) و...و.. لكن حالته الصحية صارت أسوأ وقرر طبيبٌ آخر ضرورة إجراء عملية أخرى لتقشير التامور.

بدأت العائلة بمراسلة دول أوربية حيث أرسلت التقارير الطبية إلى عدة دول, وقبل أن تصل النتائج..!!

هنا توقفت صديقتي عن الكلام الذي كان يخرج بحرقة الحمم البركانية, شهقت بدموعها على أخيها الصغير وزميلها وابنها, لم يكن بالنسبة لها أخاً فقط وهو الذي يصغرها بأربعة عشر عاماً. لقد كانت تخبرني ما حدث بصوتٍ أبح باكٍ يخرج كالصراخ دون أن يكون مرتفعاً.

قرب زوجته الصبية كان نائماً, أيقظها لصلاة الفجر لكن الساعة كان لا تزال الثانية والنصف صباحاً. طلبت منه أن يعود للنوم, كان يشعر بحرارةٍ تهب من جسده لكنها حين جسّت جبينه لم تشعر بها, رغم ذلك أعطته حبة سيتامول ليشربها وحالما فعل, أعلن قلبه اعتزال الحياة.

في أيامه الأخيرة كان يترك كل الأسرّة ليعود إلى سرير أمه, أراد أن يتكور في حضنها ويشم رائحتها.. أراد أن يعود جنيناً من جديد.

تألم قلب يوسف بما يكفي ليقول للأطباء: (كفى.. توقفوا عن العبث بي أكثر, توقفوا عن احتمالاتكم ونظرياتكم وتنظيركم وتشاخيصكم المتناقضة. ترجلوا عني أنا الحصان الذي سئمَ الحياة على أبواب أوراقكم وتقاريركم وكتبكم التي لم تقرؤوها جيداً أو ربما دفعتم ثمن شهادةٍ تزينون بها حائطكم.

سأغفو الآن, سأنام إلى الأبد, سأهدأ أخيراً وأرتاح من معاناةِ نبضي المسجون داخل غشائي المريض, سأترك لكم قلوباً أخرى علّكم تعلمتم بقلبي وازدادت خبرتكم الطبية,سأعود بيوسف جنيناً من جديد في رحم الأرض..لأنها الأم الأرحم.)


د. لين غرير، زاوية "بين السطور"، (سوء تشخيص)

خاص: مرصد نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon