حقوق المرأة في شريعة حمورابي

يعد قانون حمورابي نموذجا ليس لقوانين العراق القديم فحسب، وانما للقانون في العالم القديم بأسره في كل موضع من حيث الشكل والمضمون. بالرغم من انه لم يكن اول اثر قانوني وصلنا من حضارة وادي الرافدين،
 فقد سبقته قوانين اخرى، فهو قانون لبلد يعد بحق موطن الحضارات ولشعب عريق استطاع بكل جد وضع الاسس والمرتكزات للحضارة القديمة، وفي بحثنا لا نريد ان نؤرخ للحضارة العراقية ككل ولكن للقانون فيها ونكتفي بالاشارة اليها، ويرجع تاريخ صدور قانون حمورابي الى السنوات الاخيرة من حكم الملك حمورابي، إذ اختلف الباحثون في تحديد تاريخ التشريع، وكان صدور القانون قد استوجبته ظروف المجتمع وقتذاك، فنتيجة لقيام دولة كبرى موحدة في بلاد وادي الرافدين تحت قيادة الملك حمورابي الذي يعد من اشهر الملوك الذين حكموا بلاد وادي الرافدين، سادس ملوك سلالة بابل الاولى، تلك الدولة التي انضوت تحت لوائها المدن والدويلات التي كانت واقعة تحت سيطرة السومريين والاكديين والساميين والآشوريين لتحقق من خلالها الوحدة السياسية.
ولغرض تكملة تلك الوحدة السياسية بوحدة قانونية، تطلب الامر تشريع قانون خاص بمملكة بابل الموحدة يسود على البلاد جميعها بصفته القانون الموحد لتلك البلاد.
وقد اكتشف قانون حمورابي منقوشا على لوحة حجرية من حجر الديورايت الاسود بارتفاع 2,25م وقطر 60 سم على شكل اسطوانة دعيت بمسلة حمورابي، والنسخة الاصلية موجودة في متحف اللوفر في باريس والتي تعد احد كنوزه.
عثرت البعثة الفرنسية الآثارية التي اكتشفت المسلة الاصلية لقانون حمورابي في سنة 1902 على تسعة كسر من حجر الديورايت الاسود الى جانب النسخة الاصلية، وجرت مباحثات بين العراق وفرنسا حول امكانية ارجاع الاجزاء التي تعود الى النسخة الثانية من مسلة حمورابي والمحفوظة في باريس، فوافقت فرنسا واعيدت مجموعة الكسر المكتشفة.
وقد وجد ان بعض المواد في القسم الامامي من المسلة قد تلفت ويعتقد ان الملك العيلامي الذي سلب هذه المسلة كغنيمة حرب اراد تدوين شيء ما على هذا القسم، غير انه عدل عن ذلك خوفاً من الالهة التي ثبتها الملك حمورابي في نهاية مسلته على كل من يحاول المساس بسوء لكل ما هو مثبت في مسلته، غير ان هذا محل نظر كما يرى الاستاذ عامر سليمان:”ان هذا الاحتمال ضعيف، لان الملك العيلامي (شتروك ناخونتي) قد حملها الى هناك بوصفها غنيمة حرب بعد ان استولى العيلاميون على بابل بحدود عام 1170 ميلادية وكانت مكتوبة باللغة الاكدية، وهي اللغة الرسمية لمدينة بابل “. ولكن تفسير ذلك يبقى في دائرة التكهنات، طالما لم يكن هناك ما يعزز اي رأي او موقف في هذا الصدد، ومع كل ما قيل ويقال عن قوانين حمورابي فانها تعد بحق نموذجا متطورا للقانون في الزمن القديم، إذ بلغت درجة كبيرة من الرقي والتقدم القانوني، وانها تمثل انجازا كبيرا ورائعا صعودا على طريق التقدم والحضارة الانسانية فهي مأثرة انسانية وحلقة رائعة من حلقات الحضارة الانسانية جمعاء، وذلك من خلال تأثير قوانين حمورابي منذ صدورها بشكل كبير على مختلف التشريعات القانونية اللاحقة بها، ولا سيما تشريعات شعوب الشرق الادنى ومنها قوانين الصلاحيين وشرائع مملكة اشور وامتدت الى مصر الفرعونية وبلاد الاغريق.
وقد صاغ الملك حمورابي تشريعه صياغة فنية قريبة من صياغة القوانين الحديثة بالرغم من ان بعض النصوص الواردة فيه كانت عبارة عن تجميع وتأكيد للتشريعات السابقة لقانونه والاعراف والتقاليد السائدة وقت تشريع القانون، وبعضها الاخر تمثل حلولا جديدة تتفق مع التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي ساد في عصره، والقسم الاخير كان عبارة عن تقرير لاحكام صريحة بخصوص الموضوعات التي كان العرف غامضا بشأنها ولم تحتويها قواعده او كانت احكامها تثير خلافا بين المفسرين.

قانون حمورابي
وقد امتاز قانون حمورابي بتقريره العديد من الاحكام التي تقوم على مبدأ العدالة والانصاف، فقد اخذ مثلا بمبدأ الضرورة واساءة استعمال الحق للفرد وحماية العمال وتنظيم شؤون المرأة والقصاص في الجزاء.
كما امتاز بتحرره من الشكليات فكان للدليل الكتابي الصدارة في موضوع الاثبات ولا نغالي اذا قلنا ان بعض المبادئ التي تضمنها قانون حمورابي لم يتوصل المشرعون في القوانين الحديثة الى الاخذ بها، وبعضها قد اخذ بها في زمن قريب، وقد احتوى القانون على ثلاثة ابحاث رئيسة.
المبحث الاول: مقدمة قانون حمورابي.
المبحث الثاني: متن قانون حمورابي.
المبحث الثالث: خاتمة قانون حمورابي.
وفيما يخص المبحث الثاني فقد عمد الباحثون الى توزيع مواد وقوانين حمورابي على قسمين رئيسين هما:
القسم العام:
وهو كل ما يتعلق بالقانون العام في المفهوم الحديث كالقانون الجنائي والدستوري والتجاري والمالي والاداري، وقد وزعوا المواد التي تخص هذا القسم، بغض النظر عن تسلسلها الوارد في اصل القانون الى فروع القسم العام، كالنصوص التي تتعلق بالقانون الدستوري وشكل الملك ووظيفة الملك وشؤون الجيش وادارة الحرب، وما يتعلق بالقانون الجنائي مثل تحديد الجرائم والعقوبات.
 امت الثاني فهو القسم الخاص:
فقد قاموا بتوزيع ما يتعلق من المواد بالقانون الخاص، وهو كل ما له علاقة بنظام المجتمع والاسرة وما يدخل في نطاق قانون الاحوال الشخصية والمعاملات والتعاقد ونظام الملكية والقروض ونسب الفوائد وتنظيم شؤون الرقيق.
قوانين حقوق المرأة
ومن الامور التي تسترعي الانتباه في هذا الصدد هي”حماية القانون للمرأة “ فكان موقفه يتسم بقدر كبير من العدل والانصاف والمعروف عادة ان كل قانون يتم تشريعه يهدف الى حماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية او حماية الفرد من الشطط والانحراف في القوانين الجزائية، من هنا، ولكون المرأة هي الطرف الضعيف في العلاقة الزوجية، فان قانون حمورابي قد اولى اهتمامه لها من هذا الباب، فقد ابتدأ المشرع في تناوله لهذا الباب بالتأكيد على وجوب تدوين عقد الزواج، وقد وضع القانون قيودا على تعدد الزوجات وضيق نطاق الجمع بين زوجتين.
فقضى بمنع الزوج من اتخاذ زوجة ثانية، الا عندما يتوفر سبب من الاسباب الاتية”لقد تطرق قانون ممكلة اشنونا الى تضييق نطاق تعدد الزوجات“، الاول، ان تكون الزوجة قد مارست عملا حط من شأن زوجها وكانت مخزية لبيتها، ولا يمكن للزوج ان يمارس هذا الحق الا بعد اثبات ذلك امام القضاء.
والثاني، ان تكون الزوجة عاقرا، ولكن القانون وضع قيدا على هذا الاستثناء وهو منع الزوج من الزواج من امرأة ثانية اذا كانت زوجته الاولى العاقر قد قدمت لها جاريتها لكي تنجب منه نيابة عنها، وانجبت ابناء له بالفعل.
اما السبب الثالث فهو اذا ألمَّ بالزوجة مرض خطير، ولو امعنا النظر لوجدنا ان المشرع قد اهتم بشكل جاد في معالجة الحالة الانسانية واتصف بالرأفة، حينما حرم على الزوج طلاق زوجته المصابة بمرض خطير، وألزمه بالانفاق عليها طيلة حياتها، في حين نرى ان هذا الحالة قد تجاوزتها معظم القوانين القديمة والحديثة وحتى المعاصرة منها، فياله من حكم بلغ ذروة الانسانية.
وقد سعى القانون على توفير العيش الآمن للمرأة المطلقة، فقد ألزم الرجل اذا طلق زوجته التي انجبت له اولادا ان يتخلى لها عن نصف ثروته، اضافة الى هديتها التي جلبتها من بيت ابيها، وبعد ان تربي اولادها تحصل من هذه الاموال على نصيب وارث واحد من كل شيء حصل عليه الاولاد، واذا لم تكن الزوجة المطلقة قد انجبت اولادا فعليه ان يعوضها نقودا بقدر مهرها فضلا عن تسليمها الهدية التي جلبتها من بيت ابيها واذا لم يكن الزوج قد دفع لزوجته مهرا ألزمه القانون ان يدفع لها عند طلاقها يتفاوت مقداره تبعا لمكانة الزوج الاجتماعية.
وجرت العادة في بلاد وادي الرافدين على قيام الزوج باهداء زوجته اموالا في حياته، ويوصي لها ببعض امواله، فاذا لم يوص لسبب او اخر بشيء من مال زوجته كان لها رغم ذلك نصيب في التركة، فضلا عن حق الارملة في استرداد الاموال التي حصلت عليها من ابيها بمناسبة زواجها والتي تعرف بـ”البائنة “ منح لها القانون حقا في الحصول على مبلغ من المال يعادل قيمة حياتها ولا يمكن لاحد ان يطردها منه، واذا اساء اولادها من المتوفى معاملتها لاجل اخراجها من البيت فان القضاة بعد ان يتحققوا من ذلك يصدرون عقوبة على الابنـاء يلزمونهـم فيهـا بعـدم تعرضهم لها.

 مواضيع اخرى
وقد عالج موضوع الزنا بالمحارم وقضى بفرض عقوبات شديدة ولكنها تتصف بالعدل والانصاف على مقترف فعل الزنا تفاوتت ما بين النفي والاعدام غرقا وحرقا.
ومن المبادئ التي انطوت عليها شريعة حمورابي في سعيها لتحقيق العدل ما قضى به للأمة التي تلد لسيدها او سيدتها اولادا عندما تقدمها لزوجها لتنجب نيابة عنها.
وقد رجحنا سابقا بان نظام الرق في بلاد وادي الرافدين يحمل طابعا متميزا وهو ان السيد لا يمتلك من الرقيق العائدين له سوى منفعتهم دون انسانيتهم، فعليه الاعتراف بآدميتهم والتعامل معهم على اساس المنفعة باعتبارهم اموالا، فللسيد سلطة التصرف في عبيده وامائه بالبيع او الهبة او الرهن او غيرها من التصرفات، وقانون حمورابي اقر للسيد بهذه السلطة، ولكنه نظر الى الامة التي تلد اولادا لسيدها او سيدتها بمنظار خاص، فقد حرم بيعها، بل قرر بان اولادها يصبحون احرارا بعد وفاة السيد”والدهم“ ولو لم يعترف بهم اولادا له منها بوصفهم اولاده الشرعيين، وتضمن القانون ايضا احكاما تهدف الى حماية الابناء وتحقيق المساواة بينهم، فقد نص القانون على تقييد سلطة الاب في حرمان احد اولاده من الميراث على سبيل العقوبة واشترط القانون ان يتحقق القضاة من سلوك الابن هذا، فان وجدوا بانه لم يرتكب خطأ جسيما او ارتكبه ولكنه كان يحدث للمرة الاولى ايضا فانهم لا يجيزون للاب حرمان ابنه من الميراث.
ومنها ايضا اذا توفي رجل وبقي من اولاده من لم يتزوج بعد ولم يخصص لهم مبالغ للمهـر، فقرر القانـون اخراج المهـر للابن الصغـير غير المتزوج من التركة، شأنه في ذلك شأن اشقائه الذين سبق لهم الزواج ودفع والدهم مهرهم.
ويكون هذا المهر الخارج من التركة اضافة الى ما يستحقونه من نصيب في الارث، وكذلك الحال بالنسبة للابنة، إذ  جرت العادة في بلاد وادي الرافدين على ان يقدم الاب لابنته هدية”بائنة“ لمناسبة الزواج وهي جزء من اموال الاب تعتبر بمثابة حصتها بالتركة تأخذها مقدما، فاذا توفي الاب قبل زواج احدى بناته، فقد الزم القانون اخوتها بان يعينوا لاختهم بائنة تتناسب مع حجم التركة وان يقوموا بتزويجها وقد ذهب المشرع الى ابعد من ذلك في البحث عن العدل والتقصي عن مواضع المساواة والانصاف عندما اجاز الزواج بين الاحرار والعبيد.


سعاد البياتي، (حقوق المرأة في شريعة حمورابي)

عن جريدة "الصباح"

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon