قطار العربة الأخيرة..!!

انطلقت صافرة القطار ثلاث مرات متتالية، تعلن تأهب القطار للانطلاق في رحلته، كانا عند باب العربة الأخيرة، دعاها لمرافقته: كل رحلات القطار يمكن أن يعوضها ركوب قطار آخر، لكنه قطار العمر، قطار الرحلة الواحدة.

ترددت قائلة: قد يكون قراري خاطئ، مع ذلك أرى أن البقاء هنا وحيدة هو خياري، أخشى هذه الرحلة، سامحني فأنا لا أستطيع السفر.

لم يتحرك القطار، طالت الثواني والدقائق، كأنه ينتظرهما، هو، ما عاد ينظر أبعد من عينيها، يحملق مندهشاً..! كيف تترك آخر العربات تفوتها وتعلم أنها ستبقى وحيدة، هي الآن في غربة لا أحد يفهم لغتها، لا أحد يستطيع أن يقدم لها يده فتتوكأ على كتفه، يحتضنها، يدثرها بروحه اتقاء البرد، يفرش لها صدره لترتاح، يستمع لنهداتها، لآهتها، ويذرف دمعة بعد دمعة خشية أن تفارقه أو يفارقها.

كرر متوسلاً: أرجوك، لا أريدك أن تندمي بعد فوات الأوان، إنها فرصتك الأخيرة، وهي ذي العربة الأخيرة، مدي يدك وأمسكي بقبضة الباب، هذي يدي، سأنتشلك من أرض المحطة الرطبة، فقد تصبح مظلمة بعد قليل، دعينا ندخل جوف العربة.. على الأقل هي مضاءة وجدرانها ترد عنا العاصفة وبرد الليالي المقبلة، سأخبئك في قلبي، هيا يا حبيبتي فأنا لن أغادر دونك أبداً.

أطرقت برهة كأنها دهر بكامله، كاد يصرخ وهو يسمع صرير عجلات القطار يرتفع رويداً رويداً، امتدت يده دون وعي لتمسك يدها الباردة، بعث الدفء في أوصالها، نظر في عينيها نظرة متوسلة ذات معنى، شدها إلى صدره والتفت نحو باب العربة الذي بدأ يبتعد على مهل..

خيل له أنها قالت: سوف أرافقك، أستعيد التجربة وأنا خائفة، أثق بك، لكنني أخشى غــدر الزمن، مع ذلك لم يعد في العمر ما أندم عليه...
سحبها من يدها حالماً، خطوات قليلة ودفع بها إلى جوف العربة قافزاً وراءها وهو يقول.. لن تذهب ثقتك سدى، سأكون لك نعم العون على صروف الدهر، ولن أدعه يغدر بك طالما أنا حي.

صوت حركة القطار أعاده إلى الواقع فأدرك أنه لم يزل وهي في مكانهما، جرها من يدها باتجاه العربة المغادرة، أبدت قليلاً من المقاومة، ولما قفز إلى العربة محاولاً سحبها معه أفلتت يدها وهي تنظر ببلاهة مطلقة وقد توقفت على جانب الرصيف كأنها أحد الأعمدة المتناثرة هناك.

صرخ بأعلى صوته: لماذا فعلت ذلك، لماذا لا تريدين الصعود إلى العربة، أنا لن أتركك أبداً، كان القطار يتسارع ولاح له أنها ستختفي عن ناظريه بعد قليل، استغرقه التفكير بضع لحظات، أو هكذا خيل له، لكن القطار أصبح سريعاً، الأعمدة الموازية للسكة تركض مبتعدة بسرعة كبيرة، ولأنه لا يستطيع التخلي عنها، أو يقوى على فراقها قرر أن يقفز من العربة.

قفز دون أن يفكر بعواقب عمله، كان لا يتقن مثل هذه الحركة، أو يدرك أن لها وجهة وأسلوباً يتقي به السقوط غير الآمن، اصطدم جسده بعنف شديد بأرض مملوءة بالحجارة على جانبي السكة، انقلب الجسد مرات عديدة وكانت السكة مرتفعة عن مستوى الأرض... شاهدته وهو يقفز، تحركت ساقاها بلا إرادة راكضة نحو مكان سقوطه، كانت ترنو إلى الخيال الممدد على الأرض برعب شديد وهي تقترب منه لاهثة.. لم يعد في الجسد حياة، لقد فارقها، دُقت عنقه، لكنه قبلاً كان يردد اسمها.. مايه، مايه.. بصوت سمعته وهي بعيدة، توقفت، ركعت على ركبتيها إلى جانبه، احتضنته، سقطت دموعها على وجهه، كانت أمنيته أن تبكي يوماً على صدره، وها هي ذي تفعل.


محمد ح. الحاج، (قطار العربة الأخيرة..!!)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon