هالة سيدة طرقت أبواب الأربعين. تزوجت وهي تطرق باب العشرين وهي في السنة الثانية في كلية الأدب الإنكليزي ورزقت بـ (محمد إدريس). الزواج المبكر واجتياح الأمومة ألهتها عن إيقاف تسجيلها في الجامعة، بل أنستها كل ما له علاقة بمستقبلها، فكانت الأمومة حينها هي كل طموحها وأحلامها.
محمد الآن شاب في التاسعة عشرة من عمره، رسب في امتحان الشهادة الثانوية في السنة الماضية فملأه اليأس والرغبة بالابتعاد عن الدراسة، فما كان على هالة إلا أن درست معه ونجحت معه بمجموع (228) علامة بعد انقطاع 20 عاماً عن الدراسة. وعن هذه التجربة توجهت إليها بالأسئلة التالية:
رنا ـ من أين بدأت الفكرة؟ هالة: منذ زمن وأنا أفكر بالعودة للجامعة وتغيير حياتي نحو الأفضل كوني أشعر أن طريق العلم والمعرفة هو الطريق الذي يناسبني. وبما أني كنت طالبة في كلية الأدب الانكليزي عام 1989 ولم يصدر مرسوم يشمل عودتي للجامعة، فأنا تركتها دون أن أوقف تسجيلي وألهتني أمومتي عن أمور كثيرة، وساعد في ذلك أن جامعتي كانت في حمص وأنا أسكن منذ زواجي في إحدى قرى بانياس. بعد أن كبر ابني ورسب في السنة الماضية بكالوريا وأصيب بخيبة أمل ولم يرغب في التقديم هذه السنة، أحببت أن أخدم ابني (دون أن أقدم له النصيحة بشكل مباشر، فأنا قدوة له) وفي نفس الوقت أفيد نفسي، وأشغل وقتي بأشياء مفيدة خاصة أني أكره جلسات الثرثرة.
رنا ـ هل كان دور زوجك إيجابي؟ هالة: كان دوره الإيجابي يكمن في أنه تحدى عادات مجتمعه وأقاويل كل الناس وتعليقاتهم فلم يحاول منعي من هذه المغامرة وكان مستعد لدفع التكاليف ضمن إمكانياته.
رنا ـ ما هو دور المجتمع في هذه التجربة؟ هالة: أكثر من 98% من أهالي منطقتنا استنكروا واستغربوا هذا الموضوع وأصبحت (ثانويتي) شغلهم الشاغل. ولكني كنت أحاول دائماً ألا أسمع أية كلمة تعيدني للخلف وصممت وساعدني ابني جداً وساعدته، كنا ندرس معاً ونرتاح معاً، يسمَع لي الدروس وأسمَع له.
رنا ـ دور المجتمع السلبي بما أثر على معنوياتك؟ هالة: لا أنكر أن مجتمعي جعلني أشعر بالخوف من التجربة، ولكني أحسست أن التجربة بحد ذاتها والتغيير الذي سيحدثه ذلك في حياتي يستحق التحدي. تحديت أولا رتابة حياتي والضعف الذي كنت أخشاه والذي كان أحياناً يتملكني وساعدني ابني أيضاً على متابعة طريقي وتصميمي على النجاح، والأهم من كل ذلك هو أني بهذا السلوك أعدت ابني لجو الدراسة ونجح أخيراً والحمد لله بعلامات جيدة.
رنا ـ هل كان عندك خوف من عدم النجاح؟ هالة: رغم أني قد فعلت ما أستطيع إلا أنني كنت خائفة من المفاجآت فخوفي كان مضاعف (على نفسي وعلى ابني) وعلى مكانتي وثقتي بنفسي وثقة ابني وزوجي وبقدراتي واحترامي بين الناس خاصة أني خرجت عن المألوف وتحديت العادات والتقاليد.
رنا ـ هل تتمنين أن تتكرر تجربتك مع نساء أخريات؟ هالة: لأني أحب الخير للناس جميعاً، وأحزن على وضع النساء، وخاصة لأن أغلبهن يشغلن أوقاتهن بأمور فارغة. أتمنى من كل امرأة تعاني من فراغ أو ملل أو رتابة في حياتها أن تسعى نحو الأفضل، فالعلم والمعرفة بحد ذاته قيمة كبيرة.
رنا ـ هل تعتقدين أن نضجك وعمرك وخبرتك وثقافتك ساعدوك في هذه التجربة؟ وكيف تعاملت مع معلومات المنهاج؟ هالة: العمر والنضج ساعدني على فهم المادة المراد درسها بشكل أكبر وأسرع وأوسع من الطلاب العاديين فأنا لم أتعامل مع المعلومات كمعلومات جامدة إنما كمعلومات عامة فأنا أقدر قيمة المعلومة وأشعر باللذة وأنا أكسب المعرفة. وللأمانة فالمعلومات في الكتب المدرسية غنية وقيمة لكنها لا تخلو من بعض الحشو الذي لا معنى له وحذفه لا يغير بمجرى التاريخ (مادة التاريخ مثلاً) ولا يزيد معرفة ولا ينقصها. أنا تقدمت للامتحان ونجحت بكامل إرادتي وأنا أعرف تماماً ماذا أريد.
رنا ـ ماذا تريدين بعد البكالوريا؟ هالة: أدرس (تربية معلم صف) أو (أدب انكليزي) وأتابع دراسات عليا وأعمل بشهادتي عمل محترم يناسبني.
رنا ـ هل تطمحين بوظائف الدولة؟ هالة: يا ريت، فهو المكان الأكثر أماناً.
رنا ـ هل تخافين من إعاقة موضوع العمر لطموحك؟ هالة: بالنسبة لي لا، ولكن بالنسبة لدخول الجامعة والعمل إن فعلوها فهم ظالمين. أحس أن عندي طاقة بنت العشرين لكن بنضج الأربعين (عمري الحقيقي) وأنا مستعدة لكل ما يتطلب ذلك مني كي أخدم نفسي ووطني مع كامل حبي وقدراتي.
+ للمتفوق الثاني، محمد، ابن هالة الذي حصل على شهادته مع امه، توجهت ببعض الأسئلة:. رنا ـ ما هو إحساسك أمام نفسك وأمام زملائك وأمك أصبحت زميلتك على مقاعد الدراسة؟ محمد: السعادة والفخر والابتهاج.
رنا ـ ساعدتك أمك على النجاح؟ محمد: كنت أشعر أنها منافس قوي لي في البيت وفي المعهد. فأنا وحيد لا أخوة لي وأبي طوال النهار في العمل. هذا دفعني لمضاعفة جهودي بعد أن يئست وقررت ترك الدراسة، أعادتني إليها دون طلب، فقد حفزتني.
رنا ـ وقت النتيجة، ما هو إحساسك بتفوقها عليك؟ محمد: بيني وبين نفسي كنت فخور جداً بها، لكن الناس لاموني لأنها تفوقت عليّ. لكني كنت فخور بنجاحها ونجاحي. لم تؤثر هذه التعليقات السخيفة علينا بشيء، فهي تفوقت على جميع الزملاء وأنا من بينهم.
رنا ـ ما هو طموحك؟ محمد: أدخل الجامعة وأتابع دراستي، فالنجاح فتح أمامي آفاق ومساحات أخرى للحياة.
رنا ـ وتبقى أمك زميلتك على مقاعد الجامعة؟ محمد: هذا أمر يسعدني فهي على مدى 19 سنة صديقتي وأختي وأمي، فما المانع أن تبقى زميلتي؟
شكرت هالة محمد وابنها محمد إدريس وزوجها (علي) على استقبالهم لي، وعلى صراحتهم. التقطت صوراً وودعتهم. ثم خرجت وأنا أفكر بـ (هالة) تلك المرأة التي قلبت حياتها رأساً على عقب، كيف جعلت من حزنها وابتعادها عن كيانها قوة دفعتها نحو الأفضل والتغيير الإيجابي.
كم حسدتها وفرحت لأجلها، وكم تمنيت وأتمنى أن تكون هالة نموذجاً يُحتذى به من قبل كل النساء اللواتي يرغبن في تغيير حياتهن، أن يبحثن عن كيانهن، أن يدرسن ويعملن ويحققن وجودهن. أفتحر بمعرفتك هالة... مبروك نجاحك.. ومبروك لـ محمد النجاح.
رنا محمد، (بعد انقطاع 20 عاماً عن الدراسة.. هالة محمد تحقق 228 علامة). ogareossbram@yahoo.com
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon