ابتسام... تلك الفتاة.... ذكريات طفولتي

كنت في الخامسة من عمري عندما كانت تركض في الشارع ناشرةً الذعر بين سكان الحي كبيرهم وصغيرهم، تهمّ في مشيتها مبتدئة مسيرها بهدوء مصطنع قلّما يستمر لأكثر من دقيقتين، فتبدأ نوبة الجنون لديها.

أنها ابتسام الفتاة التي ولدت وعاشت في شارعنا، عندما وعيت لها كانت في قرابة العشرين من عمرها، عهدتها هكذا لم أعلم ما كان يعتريها ولكن كل ما كنت أعرفه هو الخوف من الصغار والاختباء في أزقة بيوتهم بعد التحرش بها وإخراجها عن طورها، والحزن والأسى من الكبار الذي يتوضح بالكلمات المنطلقة من أفواههم ضيعان شبابها أو الزفرات التي تعبر عن تذمرهم من أهلها لتركها تركض وتظهر المستور من جسدها الذي وعلى الرغم من هذا لا ينقصه الجمال الساحر، فابتسام ذات قامة ممشوقة وشعر أسود طويل بعثره الجنون، وعينين سوداوين لا تخلوان من براءة احتفظت بها منذ آخر يوم لثبات عقلها وذهابه في اليوم التالي.
 
تنحدر ابتسام من عائلة متوسطة الحال أفرادها متوسطي التعليم فشقيقتها هدى مدرستي في الصف الثالث الابتدائي وشقيقها بسام موظف في الكهرباء، ووالدها وهنا بيت القصيد عامل أكل عليه الزمان وشرب وأراد أن ينتقم منه بشخص ابتسام ووالدتها التي وكما تقول النساء عنها إلها تم يأكل ولا يحكي، ويا حصرتي عليها شو عاشت حياة مظلومة مع رجل لم يعرف يوماً قيمتها ومعنى تربيتها الشريفة والنظيفة لأولادها الثلاثة هدى وابتسام وبسام وحيدها الذي طالما أكل الضرب من والده الظالم لكنه صمد في حين لم تصمد ابتسام فذهب عقلها في إحدى الضربات.
 
الفقر ليس بعيب والعوز ليس هو العيب بل العيب أن نتذمر من واقع كان أغلب الناس يعيشونه تلك الفترة، هذا هو حال والد ابتسام الذي وحسب اعتقاده غير ظابطة معه، يضربها يمين تجي شمال ويضربها شمال تجي يمين، ودرب الحبل على الجرار كل يوم نفس المأساة يذهب ويعود كما ذهب بيدين فارغتين، لدرجة أنه كره زوجته وأولاده واعتبرهم مصدر تعاسته فلولاهم لاكتفى حسب قوله بخبزة وبصلة ونام على الرصيف ولما تكبد عناء استئجار منزل ليستر به عائلته ويا ليته منزل.

منزل لا يحتوي إلا ما قل ودل يتسرب اليأس من ثناياه ويتدفق إلى الخارج معبراً عن حياة ملؤها العذاب والندم على أيام مرت وعدم التفاؤل بأيام قادمة، صوفا وحصيرة واسفنجة مهترئة تحاول أم ابتسام المحافظة عليها لعلمها أن لا ثانية غيرها فرب البيت بغض النظر عن عوزه قلبه ليس على البيت لأن كل ما يجنيه يصرفه لشربه العرق ولقضائه سهرات رخيصة خارج المنزل.
 
بالعودة إلى ابتسام كان عندما يراها المرء تتشابك الأسئلة في عقله حتى ليكاد يعجز، فيقول في نفسه اتركنا الله يعافينا العقل زينة بني آدم، ولكنه يعود بفضول ليبحث وليجد إجابةً عن كيف تعيش داخل المنزل كيف تنام أين تجلس هل لديها القدرة على الحديث أحياناً كالناس العاديين، هل تتسامر مع أهلها؟ هل لديها أصدقاء؟ كيف تحافظ على نظافتها التي كانت تفتقدها فهذا ما يدل عليه مظهرها؟ ويختم هل هناك سبيل لعلاجها وإعادة الحيوية لصبية كان أشبه بيمامة حاول الصياد اصطيادها وعندما نجت أضحت مذعورة من كل من حولها حتى من أهلها.
 
وتدور الأيام وتختفي ابتسام ونكبر وتكبر ابتسام وتنقطع أخبارها ما عدا خبرواحد هو أن أحد الميسورين رآها فحزن لمصابها وطلب من أهلها الاعتناء بها لا بل أعطى والدها حفنةً من المال كانت كفيلة بالاستغناء عن فلذة كبده مقابل كوب من المشروب ويموت اللي يموت ويعيش اللي يعيش ومن بعدي عمرو ما ينبت زرع.

لأعود وأراها بحلة جديدة وقد أصبحت من سيدات المجتمع بعد أن زوجها الرجل لولدها وعلمها، ليثبت أن لا شيء في الدنيا مستحيل الحل إلا التخلف المزمن والعقلية المتحجرة وإحساس المرء بإعاقة الآخرين له في مشاريعه ليتحول هو فيما بعد حجرة عثرة في طريق من حوله وليثبت أن هناك مرضى ومجانين ضامرين في مجتمعنا ولكن راحت عللي راح......


عبيراليوسف، (ابتسام... تلك الفتاة.... ذكريات طفولتي)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon