زوجات البحارة.. نساء برسم الانتظار!

قد تكفيك خمس دقائق تنتظر فيها صديقا أو حبيبا على أحد المقاعد، ليطبق صدرك وينفذ صبرك وتشعر أن الانتظار شيء لا يطاق.... فكيف إذا كانت الحياة بأكملها برسم الانتظار !!!

في زاوية مظلمة من هذا العالم ولدت معاناتهن وكبرت، لم يشعر أحد من العابرين بها، بل على العكس، كان الثوب الحريري وطوق الذهب كافيا لجلب حسد الآخرين وأطماعهم.
ليال طويلة لم تعرف عيونهن النوم، بحثا عن إنسانية سلبتهن الحياة أبسط متطلباتها دون اكتراث أو دونما أدنى شعور بوجودهن.
رجال قدرهم الرحيل الدائم، هكذا نشؤوا، وهذه هي مهنة الآباء والأجداد المهنة الوحيدة التي عرفوها وعشقوها منذ الصغر حتى غدت قدرهم.
ونساء تزوجن الوحدة والانتظار، ولملمن كل تفاصيل أنوثتهن وأغلقن عليها خزانة بأبواب سبعة، مفاتيحها بيد شريك حمله البحر إلى البعيد..

سجن على سجن، وألم فوق ألم.. ومسؤولية ثقيلة جدا..ومجتمع لا يرحم.
قالت كوثر ذلك وهي تقاوم البكاء لكن دون جدوى..
تزوجت في الرابعة عشرة، لم أكن أدرك أبدا ما ينتظرني.. كنت أرى معاناة والدتي ولكني لم أكن في سن يؤهلني لأدرك أسبابها.

كان والدي يغيب أشهرا، ولم تكن مدة تواجده معنا لتزيد عن شهرين على الأكثر في كل عام ووقد لا يكون هذان الشهران متواصلان..

من الطبيعي أن أتزوج بحارا.. فالمحيط حولي أغلب شبانه يمتهنون هذه المهنة وقد كنت سعيدة آنذاك، سعيدة بالهدايا الثمينة التي يحضرها خطيبي لي من الخارج، والأثاث الغالي الذي اشتراه لمنزلنا...وكنت أتباهى بهذه الأشياء أمام قريناتي..

بعد الزواج سافرت معه على متن السفينة في شهر عسل... وانتهى شهر العسل وعدت إلى المنزل وسافر إلى عمله..لم يلزمني الكثير من الوقت لأدرك برودة المكان على الرغم من جماله الزائف، وقسوة جدرانه التي بدأت تضغط بقوة على صدري فتكاد توقف ما تبقى من نبض فيه..

كانت تحركاتي كلها بحساب، فبحكم غياب الزوج، فان المجتمع المحيط بي قد ترك كل أشغاله وتفرغ لمراقبة تحركاتي..!!

وهكذا صار مشواري الوحيد خارج المنزل هو لزيارة عائلتي.. مضت أربع سنوات حتى الآن، ولم يرزقني الله أطفالا، والوحدة بدأت تفترس روحي، نصحتني إحدى الصديقات أن أتقدم لامتحان شهادة التعليم الأساسي.. كي أن أملأ فراغ حياتي بشيء مفيد، وأنسى معاناتي..

أم أحمد سيدة في الثلاثين تقول :
تزوجت في السادسة عشرة بعد أن اجتزت امتحان الشهادة الإعدادية.. لقد كنت من المتميزات في مدرستي.. وكان لي ترتيب بين المتفوقين في مدرستي..
أحببت زوجي كثيرا قبل الزواج (من الشباك فقط) كان ابن جيراننا وبالطبع فالخيار الوحيد المتاح هو الزواج وهكذا تقدم لخطبتي وتزوجنا لنكون معا..!
بعد أقل من شهر من زواجنا تركني وسافر.. وبعد تسعة أشهر وضعت طفلي الأول ولم يكن قد عاد بعد..
اليوم وبعد أن مر على زواجنا عشرة أعوام.. حاولت أن أجمع الأيام التي قضاها بجانبي فوجدتها لا تتجاوز العام.
عندي الآن ولدان الأول في الصف الثالث والثاني في الصف الأول.. لا أحد يستطيع أن يعرف ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي، فأنا أم وأب في نفس الوقت وأنا بقايا زوجة عليها أن تدعي الرضا دائما حتى لا تفترسها الذئاب..

أم إبراهيم سيدة في السابعة والأربعين من العمر تقول:
تزوجت وأنا في الثالثة عشرة، كنت جميلة جدا، دللني أهل خطيبي كثيرا وغمروني بالهدايا وكنت سعيدة جدا بكل هذا اللمعان في يدي وجيدي، وكل تلك الحرائر الملونة في خزانتي، وهكذا تركت المدرسة وخلعت عني رداء الطفولة وتزوجت، سكنت مع أهل زوجي في البداية، وأذكر أني أخذت معي ليلة زفافي دميتي المفضلة.. كبرت مع أطفالي.. طفلة مثلهم، طفلة محرومة من حنان الأهل الذين انتزعت من أحضانهم باكرا، وزوجة بالمناسبات السنوية وعلى دفاتر الدولة، وأم.. أم في الرابعة عشرة وحيدة لا تملك من خبرة الحياة سوى فن الطبخ الذي اجتهدت والدتي في تلقيني إياه باكرا، طول تلك السنوات الماضية لم أنم في فراشي الزوجي إلا أيام قليلة، لم أكن أطيق مجرد الدخول إلى غرفتي أثناء غياب زوجي، كنت أنام مع أبنائي، كان مجرد سماع أنفاسهم يؤنس وحدتي، وحرارة أجسادهم التي تشع في المكان كانت تدفئ صقيع روحي.

روعة وهي سيدة في السادسة الثلاثين حاصلة على الشهادة الثانوية التقيتها على شاطئ البحر، حيث كانت تصطحب أطفالها في نزهة.

تقول روعة:
لم أتزوج في سن مبكرة، لقد كان والدي حريصا على عدم تزويج أي منا باكرا، وأشكر الله أني ولدت في عائلة أدركت خطورة الزواج المبكر، وعندما منحني أهلي هذه الفرصة لأكبر وأدرك معاناة النساء المحيطات بي واللواتي سافر أزواجهن وراء البحار، اتخذت قرارا بألا أتزوج بحارا..!

وهكذا انتظرت وانتظرت.. تقدم لخطبتي شبان يمتهنون مهنة أخرى ولكن أحدا منهم لم يكن مناسبا، إن أغلب المحيط يركب شبانه الموج ولذلك فخياراتنا ضيقة إلى حد كبير.. أصبحت في الرابعة والعشرين ولم أتزوج بعد وهو سن متقدم مقارنة بالمحيط من حولي.. وهكذا وصل زوجي في ذلك الوقت وها نحن هنا.

تتابع روعة : لدي ثلاثة أطفال أكبرهم في الصف الخامس، في البداية واجهت مشكلة كبيرة ككل النساء في وضعي، مشكلة في نظرة المجتمع، والرقابة القاسية التي يمارسها علينا، وفرضت على نفسي وعلى أطفالي سجنا قاسيا جدا خوفا من كلام الناس، ولكن أمام دموع أطفالي ومقارنتهم أنفسهم بغيرهم من الأطفال قررت أن أكسر جدران سجني وأخرج إلى الحياة الطبيعية، وأشكر الله على تفهم زوجي، فقد وقف إلى جانبي وكان سندا لي، ففتحت محلا للألبسة النسائية، ومنذ ذلك الوقت اختلفت حياتي وحياة أبنائي كثيرا، وأصبحوا يستمدون القوة مني، أنا أشجع كل السيدات في وضعي على إيجاد عمل منتج يشغلن به أنفسهن كي يشعرن بجمال الحياة خارج جدران السجن..

وعندما سألتها هل ستزوجين ابنتك من بحار عندما تكبر ؟ نظرت روعة إلى سرب من النوارس كان يتحرك جيئة وذهابا وقالت : انظري إلى تلك النوارس، رجالنا كتلك النوارس، قدرهم الرحيل، ولكن من حقهم أن يكون لهم عائلات وبيت دافئ يعودون إليه بعد الغياب.

لن تتوقف النوارس يوما عن عشقها للرحيل، هذا واقع يجب أن نسلم به ونتعامل معه على هذا الأساس، ولكني أطلب من كل النساء اللواتي تتشابه أوضاعهن مع وضعي أن تكن قويات في مواجهة ضغوطات المجتمع وألا تستسلمن للوحدة.

كما أطلب من كل الأهل الابتعاد عن الزواج المبكر، وتعليم بناتهن وترك المجال أمامهن كي يعشن مراحل حياتهن كاملة، فالزواج من بحار مسؤولية كبيرة، يجب أن تكون الفتاة مدركة لعواقبها، وواعية لتفاصيلها، وقادرة على تحملها، هذا لا يتحقق إلا إذا اكتمل وعي الفتاة وفهمها للواقع كي تستطيع دخول هذه التجربة بقوة وصلابة ونضج.


نسرين حسن، (زوجات البحارة.. نساء برسم الانتظار!)

خاص: مرصد نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon