لكل حياة مقومات وجودها التي تحميها، حتى تستكمل دورتها الحياتية، يتجلّى ذلك في حياة الأحياء عموماً، ومنها الإنسان..، إلاّ أن قابلية الإنسان للتطور، واستعداده له، وتفكيره به، هو الذي مكّنه من حماية حياته والرقي بها دون سائر المخلوقات؛
ومن يدرس المراحل التي مرّ بها التطور الإنساني عبر التاريخ، يكتشف أن تاريخ الإنسان، هو تاريخ المرأة، فإبداعات المرأة في صياغة شراكتها مع الرجل،تكشف لنا أحقيتها بالتاريخ الإنساني، وسنحاول هنا بيان بعضاً من أسرار تلك الشراكة المتجددة أبداً بينهما، إذ أن نظرة سريعة إلى التقدم الذي أصاب الحياة الاقتصادية في المجتمع البدائي، توضح لنا بجلاء دور المرأة المميز والمتفوق بما لا يقاس على دور الرجل، الذي ظلّ لقرون طويلة متمسكاً بمهمتي الصيد والرعي، تلك المهمتان اللتان تقتضيان بعده عن الأسرة وغيابه عنها؛ فمنحت المرأة فرصة لتجريب أفكارها في الفنون المنزلية والزراعية والصناعات اليدوية، واستطاعت بالتدريج " حسب رأي ول ديورانت " أن تضيف الرجل إلى قائمة ما استأنسته من الحيوان؛ ولم يتوقف نشاطها عند ذلك، بل هي عملت بشكل مواز مع تلك الأنشطة على تطوير بنية العلاقة السيكولوجية مع شريكها الرجل، من هنا جاءت الفكرة الأولى للأخلاق، تلك الفكرة القائمة أساساً على تنظيم العلاقة الجنسية بين الطرفين، تلك العلاقة التي تهدد في كل لحظة بإحداث الاضطرابات في النظام الاجتماعي، لإلحاحها وشدتها وازدرائها للقانون، وانحرافاتها عن جادة الطبيعة، فالعلاقة الجنسية التي ما زالت ملاحقة " حتى يومنا هذا " بالقوانين والأنظمة الرادعة، قد مرّت بمراحل عديدة قبل أن تصل إلى شكلها الحالي بين الشريكين، فالاتصال الجنسي قبل الزواج كان طليقاً في الجماعات البدائية الأولى،فالقاعدة كانت هي الشيوعية الجنسية؛ من هنا كانت العفة هي الأخرى مرحلة متأخرة في سير التقدم؛ فالذي كانت تخشاه العذراء البدائية، لم يكن فقدان بكارتها، بل أن يشيع عنها أنها عقيم، فالمرأة إذا ما حملت قبل زواجها كان ذلك الحمل يقضي على كل شك في عقمها، ويبشر بأطفال يكسبون لوالدهم المال، بل إن الجماعات البدائية التي قامت قبل ظهور الملكية، كانت تنظر إلى الفتاة نظرة ازدراء، لأن معناها عدم إقبال الرجل عليها، وفي حالات كثيرة كانت البكارة حائلاً دون الزواج، لأنها تجبر الزوج أن يخالف أمر التحريم، الذي يقتضي منه ألاّ يريق دم أحد من أعضاء القبيلة، ومع تطور نظام الملكية التي دخلت فيه المرأة إلى مخازن، الرجل وأصبح إحدى ممتلكاته، كان لزاماً على المرأة أن تبتكر مقومات وجودها المتميز بين تلك الممتلكات، فجاء الخفر النسوي سدّاً في وجه شهوات الرجال، ليولّد العواطف التي ترفع قيمة المرأة في نظر الرجل، أمّا الحب، فإنه كمصطلح لم يأت إلاّ في مرحلة متأخرة جدّاً {والحب هنا معناه إخلاص متبادل وليس منفعة متبادلة} لأنه لما كانت العلاقة الجنسية أمراً مباحاً قبل الزواج، فإن عاطفة الرجل لا تجد من السدود ما يختزنها، إن الحب وظهوره مرهون بالمدنية التي أقامت الأخلاق سدوداً أمام الشهوات، فالبدائيون أفقر من أن يعرفوا عاطفة الحب، ولذلك قلما تجد في أغانيهم شعراً يدور حول الحب !! وقد كانت المرأة مدركة لذلك فتصرفت وفق مقومات وجودها فحين كان الزواج تصب نتائجه في المصلحة الاقتصادية للرجل، نراها- أي المرأة- قد حققت هذه المصلحة، وحين أصبح الزواج شراكة عرفت بدقة دورها ومكانتها بهذه الشراكة، وحين تطور إلى مصلحة متبادلة وشراكة في بناء الحياة، ورغبة وعاطفة وحب، جاء إبداع المرأة موازياً لكل ذلك؛ وجاءت معه بالحياء ابتكاراً سيكولوجي التأثير، ليضفي عليها جمالاً، ويوارب الكلمات المباشرة والنظرات المباشرة، والأفعال المباشرة خلف حجابه الشفاف، فحملت الرغبة عناوين مختلفة، وكانت القصائد والأغاني والمغامرات الخالدة التي حملت الحب عنواناً؛ وبقي الرجال يفكرون عموماً بطريقة مجردة، وبقيت المرأة تفكر بطريقة مشخصة ولكل تفكير أدواته، ولكن الغالب على أدوات تفكير المرأة هو إحساسها، وانطلاقاً من ذلك الإحساس وبناء عليه يقوم إدراكها للواقع؛ الذي ما فتئت تبحث عن مكانها ومكانتها فيه، وهي على أهبة الابتكار لمواجهة كل العوائق التي تعترضها؛ إلاّ أن الأنثوية بقيت حامل وجودها وقد أدركت ذلك منذ القدم؛ فاستنبطت لهذا الحامل لغات متعددة تعبّر عنه؛ وللتمايز كان الحياء سهماً لا يخطئ مرماه، إن أردته أدباً فهو أدب، وإن أردته إغراء فهو الإغراء بعينه.
إبراهيم الزيدي، (حياء المرأة: بين الإغراء الجنسي، والفضيلة الأخلاقية)
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon