العلمانية في المشرق العربي: نقاش متعدد الأطياف في العلمانية (1)

يدور النقاش بين من يقول إن العلمانية مصطلح غريب قذفه الغرب بلد المنشأ إلينا، ومن يراها مصطلحاً ورد في أدبيات عربية قديمة، ومن يعدّها دواء شافياً يشفي الأمة من أسقامها الطائفية ويدفع بعجلة تطورها ونهوضها،

 ومن يرى أن المتحمسين لها يضعونها في مكان يواجه الدين تماماً، ومن يرى أنها لا تعارض الدين ولا تجابهه، وباختلاف وجهات النظر حول مصدر اشتقاقها اللغوي، سواء أكانت من العِلم أم من العَالم، استجمعت العلمانية كامل حساسيتها بوصفها إشكالية في عالمنا العربي خاصة والإسلامي عامة، فأتى النقاش حاراً تميزه جرأة الطرح والمكاشفة الفجة في بعض الأحيان، من رموز فكرية كجورج طرابيشي وعزيز العظمة والمطران يوحنا إبراهيم والمفكر الإسلامي جودت سعيد ومحمد حبش وإبراهيم الموسوي وغيرهم، حملوا رؤاهم الفكرية لمناقشتها في مؤتمر (العلمانية في المشرق العربي) الذي عقدته دار بترا ودار أطلس للطباعة والنشر، بالتعاون مع المركز الثقافي الدنماركي بدمشق، على مدار يومي (17و18) أيار الماضي.
ثلاثة محاور ترّكز عليها النقاش في جلسات المؤتمر الأربع، العلمانية إشكالية إسلامية إسلامية، والعلمانية بين سلطة الدين وسلطة الدولة، وجولة أفق في العلمانية وشأن الحضارة، طرحها المحاضرون في أوراق عملهم المقدمة، ليتلقفها الحضور المهتم الذي أغناها بتساؤلات وإضافات.

العلمانية إشكالية إسلامية إسلامية
قدم الأستاذ جورج طرابيشي، أمين سر المؤسسة العربية للتحديث ورابطة العقلانيين العرب، ورقة حملت عنوان (العلمانية إشكالية إسلامية إسلامية) أكد فيها أن (قضية العلمانية في العالم العربي ليست فقط قضية مسيحية إسلامية، كما يصورها خصوم العلمانية، بل هي أيضا قضية إسلامية-إسلامية). وذلك بعد أن أورد الاتهام الذي أجمع عليه خصوم العلمانية،سواء أكانوا من دعاة الحداثة أو القدامى، ملخصه أن العلمانية نموذج لإشكالية مستوردة من الغرب المسيحي تحديداً بغية حل مشكلة الأقليات الدينية المسيحية في علاقتها مع الغالبية المسلمة، كما قدم لها كل من برهان غليون ومحمد الجابري، في حين ذهب غيرهما إلى أبعد من ذلك باتهام مستوردي هذه الإشكالية العلمانية، أي (نصارى الشرق)، بالعمالة الحضارية للغرب.
يتفق طرابيشي مع هذا الطرح في جزئية واحدة هي أن العلمانية في وجه من وجوهها يمكن لها أن تمثل مطلباً للأقليات الدينية، بما تشكله من ضمانة للمساواة التامة أمام القانون، ولكنه في الوقت عينه يؤكد أن هذا المطلب لا يقتصر على الأقليات الدينية كالمسيحيين بل يتعداه ليشمل الطوائف المختلفة في الإسلام: (العلمانية فلسفة وآلية لتسوية العلاقات، لا بين الأديان المختلفة فحسب، بل كذلك بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد. والحال أن التعددية في الدائرة العربية الإسلامية ليست محض تعددية دينية أو إثنية، بل هي أيضاً تعددية طائفية).
وفند طرابيشي في استعراض تاريخي للاقتتال الطائفي (السني- الشيعي) الذي شهدته المنطقة، كمثال أورده استحضاراً لذلك التاريخ المعيب بحسب وصفه، فند الطرح الذي يعيد الطائفية الداخلية إلى العامل الخارجي الأجنبي، مستشهداً بتلك الأحداث على (أن الفتن الطائفية الداخلية ليست من صنع الأجنبي ولا من توظيفه، بل هي التي توظف العامل الخارجي توظيفاً فئوياً على مذبح ما نسميه اليوم بالمصلحة الوطنية أو القومية).
ليخلص إلى القول في نهاية ذلك الاستعراض إلى أن الطائفية في الإسلام (ليست مجرد حدث طارئ أو مصطنع لعامل خارجي بل هي قديمة قدم الإسلام نفسه، وحتى لا يبدو وكأننا نحمل المسؤولية للدين، لنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي).
كما وقف طرابيشي على مسألة الاستعاضة عن العلمانية بشعاري العقلانية والديمقراطية اللذين نادى بهما محمد الجابري، بعد أن طالب بسحب كلمة العلمانية من قاموس الفكر العربي، متسائلاً -أي طرابيشي- كيف السبيل إلى عقلنة ودمقرطة العلاقات بين طوائف الإسلام المتكارهة علنا وسراً أو تقية وبين الملل الدينية الأخرى،في ظل تغييب متعمد للعلمانية التي ما جرى اكتشافها وتطويرها في مختبرات الحداثة الأوربية إلا لتكون الدواء الشافي للداء الطائفي، بحسب تعبيره؟. وساق في هذا المعرض عدداً من المقارنات ليدلّ على عدم إمكانية إقامة الديمقراطية في مجتمع طائفي: (نحن نعلم أن عماد الديمقراطية الأول هو صندوق الاقتراع، ولكن في وضعية طائفية لن يصوت الناخبون إلا لممثليهم الطائفيين). إضافة إلى أن النظام الديمقراطي يفترض المنافسة بين الأكثرية والأقلية، المتغيرين بحسب الظروف والتوجهات، في حين يفترض النظام الطائفي منافسة بين أقلية وأكثرية ثابتتين لا تتغيران، إلا إذا تغير الميزان الديموغرافي لتلك القوى.

العلمانية بذرة برسم الزرع
برغم الحجج التي أقامها طرابيشي على حاجة مجتمعنا العربي إلى العلمانية، ودفاعه الحار عنها، وتفنيده لمقولات خصوم العلمانية في هذا السياق، إلا أنه عاد في ختام ورقته ليقول: (لا نهدف إلى أن نجعل من العلمانية إيديولوجيا خلاصية، كما كنا فعلنا مع فكرة الوحدة العربية أو الاشتراكية في الأمس وكما يفعل اليوم مع فكرة الديموقراطية)، مؤكداً أن العلمانية ليست ثمرة برسم القطف بل هي بذرة برسم الزرع، والتربية العلمانية لابد أن تبدأ من المدرسة الابتدائية قبل ترجمتها إلى مادة دستورية أساسية، مع كل ما يترتب على ذلك من تعديل بمواد القانون المتعارضة والمبدأ العلماني. مشدداً على أن العلمانية لن تصيب النجاح في العالم العربي والإسلامي ما لم تقترن بثورة في العقليات.

العلمانية بين سلطة الدين وسلطة الدولة
واصل المؤتمر في يومه الأول أعماله بجلسة ثانية أفردها لمناقشة مقولة العلمانية بين سلطة الدين وسلطة الدولة، قدم فيها الباحث اللبناني عاطف عطية، مدير معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية ورقة تحمل العنوان ذاته، د. عطية الذي فضل الاستعاضة عن مصطلح العلمانية بمصطلح (الدنيوية) للتخلص من الحساسية التي يثيرها المفهوم ذاته، بيّن أن العلمانية مفهوم غربي كان (لعصر الأنوار) والثورة الفرنسية الفضل في صوغه واعتماده للفصل بين شؤون الدين وشؤون السياسة. وجاء تطبيقه نتيجة لصراع طويل بين السلطة الكنسية الدينية والسلطة السياسية المدنية في الغرب. مشيراً إلى أن بعض المفكرين الإسلاميين عمدوا إلى استبعاد مفهوم العلمانية باعتباره، مفهوماً غربياً ولا معنى له في الإسلام، فلا كهنوت ولا سلطة كنسية في الإسلام. وبالتالي الإسلام منهج حياة، دين ودنيا، أي دين وسياسة ولا يمكن الفصل بينهما.
وتطرق عطية إلى مفهوم الدولة عند كل من ابن خلدون وهوبز ولوك، وأطوار نشوئها، كما عرض لفكرة تشكل السلطة معتبراً أن السلطة في طبيعة وجودها سابقة لوجود الدولة، وأكد أن الدولة غير مجبرة أن تكون ضد الدين، أو أن تضع نفسها في مواجهته. وعلى الدولة في كل أشكالها، باعتبارها دولة تسيّر شؤون الناس في حياتهم العملية وفي تفاعلاتهم اليومية، أن تفرض وجودها، وأن يتم الاعتراف بها وبصيرورتها الخاصة ومنطقها، حتى على الدين نفسه، فإذا ما بقيت العلاقة بينهما مندمجة وضبابية فكيف يمكن مساءلة الدولة كمنفذة قهرية للشريعة؟ يتساءل عطية.
وبيّن عطية أن الإشكالية التي تنطوي عليها العلاقة بين الإسلام والسياسة لا تزال تشكل محور اهتمام المفكرين العرب والمسلمين، إن كان على مستوى العلاقة بين الإسلام كدين وبين السياسة، أو كان على مستوى العلاقة بين الدين والدولة أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، إذ انصب الاهتمام على كيفية بناء دولة ديمقراطية حديثة مع الحفاظ على المقاصد الأساسية للدين، أو كيفية المواءمة بين الإسلام كدين وحضارة، ومفاهيم تتبناها الدولة الحديثة مثل: الديمقراطية والمساواة في الحقوق والواجبات، وفصل الدين عن الدولة والعلمنة والعدالة وغيرها من المفاهيم.
بعد استعراض لأشكال العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية (الاندماج، الفصل، التحالف، الإبعاد والإنكار) رأى عطية إمكانية قيام دولة إسلامية حديثة، بتحالف يقوم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، ليدخلا بعد ذلك في مرحلة انتقال هادئ ومتأنّ يؤدي إلى استقلال الواحدة منهما عن الأخرى في شؤون الحياة اليومية، يعطي السياسة الانفتاح الكامل لكل ما يتعلق بشؤون الدنيا دون تجاهل أو تجاوز الأمور الأخلاقية والروحية. ويعطي الدين الاهتمام بالمسائل الأخلاقية والروحية دون تجاهل أو تجاوز الأمور السياسية باعتبارها شؤوناً دنيوية يمكن ممارستها، وليس اعتبارها تكليفاً شرعياً أو دعوة للحكم الإلهي.

متابعة: منى سويد- (العلمانية في المشرق العربي: نقاش متعدد الأطياف في العلمانية (1))

ينشر بالتعاون مع جريدة النور (6/6/2007)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon