حبش في مؤتمر العلمانية: نعم لفصل الدين عن الدولة؛ والمتدينون ملح أرض سوريا المقدسة

قال الدكتور محمد حبش رئيس مركز الدراسات الإسلامية في دمشق أنه ضد تشكيل أحزاب سياسية على خلفيات دينية في سوريا وأضاف: (نحن لا نعمل على تأسيس أي حزب ديني,

وأنا شخصيا أناضل ضد مفهوم الحزب الديني الذي يتمترس خلف الميتافيزيق ويفرض على الناس قيادته وفق منطقه), ليعود حبش فيستدرك قائلا: (ولكن في نفس الوقت أنا أطالب بقانون للأحزاب يمكن الناس من أن تشكل الأحزاب التي تريد), وأن (العمل على تفادي تشكيل أحزاب دينية يجب أن يتخذ سبل الإقناع).

وفي سابقة نادرة على هذا الصعيد صرح الدكتور حبش الذي يعد من الوجوه الإسلامية البارزة في سوريا, بأنه مع المقولة التي تنادي بـ(فصل الدين عن الدولة), وأن هذا الأمر بات مطلوبا اليوم قائلا: (حسب المنطق الذي أفهمه؛ فإن الرسول نفسه كان أول من فصل الدين عن الدولة عندما كتب دستور المدينة الأول), قبل أن يسترسل ليؤكد أن المواطنة كمبدأ لا تتعلق بحال بالعقيدة الدينية للفرد, مضيفا: (إن شروط دخول الجنة تختلف عن شروط دخول الوطن, وليس من شروط دخول الوطن لا الصلاة, ولا الصيام, ولا الحجاب, ولا الشهادتان, وأنا سأستخدم عبارة استخدمها الكواكبي والبستاني من قبل؛ نعم, الدين لله والوطن للجميع).

وتأتي تصريحات الدكتور حبش هذه ردا على أسئلة وجهت إليه في إطار محاضرة ألقاها في مؤتمر(العلمانية في المشرق العربي), والذي عقد في أواسط الشهر المنصرم في بيت العقاد الأثري, المقر الحالي للمعهد الثقافي الدنمركي في دمشق.

وقال حبش إن المشكلة التي تواجهنا فيما يخص قضية العلمانية في منطقتنا لا تكمن عمليا في عدم قابليتنا للعلمنة بل (في عدم اعترافنا بما تحقق لدينا من وعي معرفي حتى الآن), وذلك نتيجة (اعتمادنا منهجا انتقائيا في قراءتنا للتاريخ, بل وحتى للحاضر أيضا), وأضاف: (أنا هنا أدعو للاعتراف بما تحقق من هذا الوعي على مستوى الخطاب الديني في سوريا, والذي هو خطاب متقدم أنجز في صيغ كثيرة مواقف تستحق الثناء)

وأكد حبش في مستهل ورقته التي عنونها بـ(العلمانية في بلاد الشام الشريف)؛ أنه على الرغم من وجود تيار أصولي لا يزال يرى في الديموقراطية انحرافا عن الأصول الإسلامية وعدوانا على النص وخرقا لمبدأ الحاكمية؛ لكن هذا التيار آخذ بالانحسار-على الأقل في الأفق الأيديولوجي-, وأن بقائه -هذا التيار- مرهون بـ(همود الوعي), وأنّ (الديموقراطية خيار أممي تنضوي تحته الإنجازات الإنسانية الكبيرة في إطار الحرية والعدالة والمساواة), بيد أن حبش حذر من جهة أخرى من إصرار العلمانيين على أن تكون العلمانية (دين الديموقراطية), أو أن يتم اعتبارها (لازما منطقيا لقيام هذه الديموقراطية), وأعرب عن تشككه من هذه السياقات التي تطرح العلمانية كنقيض مباشر للدين (مع أنها ليست بالضرورة كذلك), حيث يكثر الحديث عن استحالة تعايش الدنيوي مع السماوي, وأن الديموقراطية لا يمكنها أن تعيش في ظل أي شكل من أشكال الغيب مهما كان هذا الغيب (مجرد قشرة تجميلية), مع كل ما قد يفضي إليه ذلك من حجر المواطنة عن المتدينين, أو (حجب حقهم في التدخل في أي شأن من شؤون الحكم؛ حتى يصرحوا بالبراءة من دينهم, في الجانب التشريعي على الأقل) الشيء الذي يذكرنا -يضيف حبش- بـ(عقلية القرون الوسطى), قبل أن يستشرف أن هذا الإصرار يمضي بالضرورة نحو ما دعاه (ثيوقراطيا الديموقراطية).

وقال الدكتور حبش الذي بدا مرتاحا نسبيا أثناء حديثه على الرغم من النقد اللاذع الذي كان قد وجهه الدكتور عزيز العظمة في ورقته للتيار الديني والمتدينين في وقت سابق من الجلسة؛ أن الفقه الإسلامي تاريخيا عمد إلى مواجهة التعصب,و أن (الفقهاء المجددين قد ناضلوا طويلا في وجه الأصولية الظاهرية التي لا تؤمن بدور العقل, والتي كانت تمارس شعار <لا حكم إلا لله>, وهو الشعار الذي حاربه الوعي الإسلامي إبان رشده) وأردف قائلا: (إن العلمانيين الذين يستحضرون شعار <لا حكم إلا لله> ليسموا به غالبية هذه الأمة؛ هم في الواقع يتناسون حقيقة تاريخية مفادها أن الإمام علي كان قد شن في وقت من الأوقات حربا لا هوادة فيها ضد هذا الشعار, وقال عنه مرة أنه كلمة حق أريد بها باطل), واستشهد على مقولته بأن علم ابن تيميه الذي كان رائد أمثال هذه الطروحات (لم يجد له أفقا في سوريا) وانتهى به المطاف –أي هذا العلم- إلى أن (يرحل إلى الصحراء في نجد), غامزا من قناة الفكر الوهابي السلفي الذي تعد الجزيرة العربية في وقتنا الراهن أحد أبرز معاقله.

غير أن حبش لم يخف في نهاية المطاف مرارته مما جاء في ورقة الدكتور عزيز العظمة, واتهمه بانتهاج أسلوب استفزازي في تقديم أفكاره, كما أبدى اعتراضه الشديد على مبدأ قراءة الدين بمنطق (تاريخاني), وقال موجها خطابه للعظمة: (هل تريدني ببساطة أن أعتبر كل هذا الرصيد الروحي الذي نذخره للشام الشريف ولسوريا المقدسة؛ مجرد قطعة عابرة من التاريخ تقع بين ذاكرة منسية وذاكرة ناكصة؟... إنني أشعر تماما بأن العلمانيين في كثير من الأحيان يبحثون عن خطاب استفزازي للآخر).

وأضاف: (يقول الدكتور العظمة في ورقته أنه كان يبحث عن <خيار مضارع للمنجز الحضاري الحديث> لكنه في الحقيقة كان يبحث عن <خيار مصارع للهوية التاريخية> لهذا الشام الشريف, دعونا لا ننسى أن ثلاثة أرباع سكان الكوكب يشربون الروح من سوريا, وكما أن لكل أمة كنوزها؛ فإن هذا الجزء من العالم لديه كنز الروح, والناس الذين يدينون بالعهد القديم أو العهد الجديد أو القرآن الكريم يعتقدون تماما بالقدسية في هذه الأرض, وأن كل الأنبياء في النهاية هم أبناء هذه المنطقة).

ليواصل الدكتور حبش نقده للعظمة منتقلا إلى محور آخر يدور حول التشكك الذي أعرب عنه العظمة في نوايا الإسلاميين في تركيا وعزمهم على الاستعانة بالشارع لتحقيق مطامحهم في رئاسة ذلك البلد, حيث اتهم حبش الأخير بتأييد العسكر على حساب الديموقراطية قائلا: (لقد كتب الدكتور العظمة كثيرا في فوائد العلمانية, وحاجة المنطقة العربية للعلمانية, ولكن ها هو الآن, ومن فوق منصتنا هذه يعلن وقوفه في صف العسكر في تركيا ضد الخيار الديموقراطي), ليطلق حبش أمام الحضور جملة من التساؤلات, معرضا بما يجري في تركيا حاليا, ويقول: (لماذا يصر العسكر على منع رجل حضاري وعلماني وديموقراطي -يعني أردوغان- من الوصول إلى سدة الرئاسة بخيار الشعب لمجرد أن امرأته محجبة؟.. هل في سعي هذا الرجل إلى إدخال امرأته إلى القصر الجمهوري ما ينكر؟.. هل تراه استوردها من المريخ؟.. أليست هي ابنة تركيا في النهاية؟.. وإن كان الأمر كذلك بالفعل فلماذا تمنع إذا من هذا بمنطق ثيوقراطي علماني؟).

وكرر أن الدكتور العظمة يصر على (التجني على الصحوة الإسلامية) ونعتها بـ(النكوص), مع أنها في كثير من جوانبها -وفق تعبير حبش- تمكنت من تحقيق نجاحات كثيرة على المستوى العلمي والتقني, ليضرب مثلا بالتجربة الماليزية في هذا المجال مبديا إعجابه الشديد بها, معتبرا أن ذلك البلد الآسيوي تمكن من تحقيق أكبر تقدم حضاري على مستوى العالم الإسلامي, وأنه لا يمكن التفريق مثلا بين البنية التحتية العملاقة التي أنجزها الماليزيون, وتلك التي أنجزها الألمان, وعليه (فما المانع إذا من أن ندخل إلى البرلمان الماليزي الذي يجسد قمة المثل الديموقراطية, وأن نقرأ على قبته سورة الرحمن؟), ثم أورد حبش مثالا آخر من خلال دعوة سبق له أن تلقاها بشكل شخصي من البيت الأبيض الأميركي بقصد قراءة بعض الآيات من القرآن في يوم الصلاة الوطنية الذي يقام سنويا في الأول من شباط, والذي (يحضره الرئيس الأميركي منذ \ 55 \عاما), متسائلا فيما إذا كان هذا الحدث وأمثاله يمس (علمانية الحياة في الولايات المتحدة), معتبراً إياه (تكريسا لما يؤمن به الأميركيون من قيم), ثم ليختم فكرته محذرا: (أتمنى أن يتنبه العلمانيون إلى أن وقوفهم في مساندة العسكر ضد الخيار الديموقراطي, لا يمكن أن يفسر على أنه يقع ضمن المصالح الحقيقة للأمة.)

ويترك حبش ماليزيا والولايات المتحدة ليعود سريعا إلى الشأن المحلي, ويجادل حول أن الحديث عن الأصالة والهوية في بلد مثل سوريا؛ ليس مجرد (ترف) فكري, بالنظر إلى أن (الحالة الدينية في هذا البلد ليست عابرة), وأنها هي من منحنا (مكانا في هذا العالم), معقبا على ما كان الدكتور العظمة قد استغربه من افتتاح حفل تأبين الماغوط بقراءة من القرآن بالقول: (إذا كان ذلك الحفل قد افتتح بالقرآن الكريم؛ فهذا لا يعني أن السلمية ماضية إلى نكوص سلفي أصولي), واضعا الجميع أمام استخلاص مفاده أن (الدين هنا بالذات في الشام الشريف, أو في سوريا المقدسة؛ هو جزء من هوية الوطن)

بيد أن حبش الذي أعيد انتخابه مؤخرا للمرة الثانية نائبا في البرلمان السوري؛ لم يعدم نقطة التقاء مع العظمة برفيسور العلوم الإسلامية في جامعات عدة لسنوات, فتوجه باللوم إلى (الجهاز التنفيذي في الدولة), متبرما من (المخاوف الحكومية) التي طالما حالت دون القيام بإصلاحات دستورية, تحت ذريعة التوجس من ردة فعل (الشارع الديني), موضحا أن هذا المصطلح إنما يشير ضمنا إلى ما أسماه (الغوغاء), رافضا أن يضع هؤلاء في سلة واحدة مع من اعتبرهم (القيادات الدينية المستنيرة), بغرض تمييزهم وما يحملون من (خطاب ديني تجديدي, يقود التطوير التشريعي في بلادنا), وقال حبش:( أنا ألوم الدولة على هذا, وكنت قد قلت لوزير العدل ووزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل أنني أشعر أنكم تصنعون عملاقا من ملح, وقد كان بإمكان القيادات الإسلامية المستنيرة مواجهة هذا اللون من الخطاب), وحث حبش وزير العدل السوري على شرب (حليب السباع), والوقوف إلى جانب من أسماهم بـ(الإسلاميين التجديديين) وذلك بغرض العمل على تطوير البنية والأرضية القانونية للدولة (حتى نتمكن من مواجهة الخطاب المتطرف), معتبرا أن (التطرف الديني هو مشكلتنا جميعا), وأنه (في حال تزعزع الاستقرار الموجود في سوريا؛ فإننا نحن الإسلاميون التجديديون سنكون أول الضحايا, قبل العلمانيين بكثير).

ولكن هذا التقاطع في الطرح كان عابرا بين الرجلين, إذ سرعان ما عاد حبش لـ(يفند) -من وجهة نظره- بعض الأرقام والإحصاءات التي كان الدكتور العظمة قد أتى على ذكرها, كالإشارة التي وردت عن وجود \22\ معهدا لتدريس الدين في سوريا, حيث اختصره حبش إلى \ 6 \ فقط, ونوه كذلك إلى أن الحديث عن \800\ مدرسة دينية يدور في فلكها عشرات الألوف من النساء المتدينات (مبالغة غير معقولة على الإطلاق), معتبرا أن الرقم الحقيقي في دمشق هو( \8\ مدارس لا غير)! على اعتبار أن مدينة دمشق كلها لا يوجد فيها سوى \475\ مسجدا,(فأين توجد هذه المدارس الـ \ 800 \؟), مطمئنا الآخرين إلى أن (معاهد القرآن الكريم) عبارة عن نشاط (طبيعي), وأنه (لا يوجد لها موازنات خاصة, ولا مناهج, ولا تعيينات), وأنها (تتم بشكل عفوي في ربع المساجد الموجودة في دمشق تقريبا).

وختم الدكتور محمد حبش مداخلته بالقول: (إنني أشعر بالحزن من موقف العلمانية الذي يسوق له الدكتور العظمة, على أساس أنه منطق مصادم للغيب, وأن التيار الذي يتأبى على الفكر العلماني هو محض تيار خيالي), مضيفا: (إنني لا أشعر أن الذين يقفون على الشاطئ الآخر الـ<لاعلماني> يقفون على شاطئ الخيال, فهم ليسوا محض وهم يمكن تجاوزه, بل هم ملح هذه الأرض, وتاريخها, ووزنها الحضاري في هذا العالم), مضيفا: (إن ما أقوله اليوم, كان حاضرا بالأمس, حتى في ضمير من صنعوا علم سوريا, وذلك عندما زرعوا في صدره نجمتين خضراوين: نجمة لمحمد, ونجمة ليسوع), قبل أن يعود بالحضور ثانية إلى ماليزيا ليقتبس ما سمعه من رئيس وزراءها السابق (مهاتير محمد) الذي يقول: (عندما أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة,
وعندما أردنا بناء البلاد توجهنا صوب اليابان), لينعي حبش في نهاية حديثه على كثير من الأنظمة العربية مفارقة أنها (عندما تريد بناء بلادها تتوجه إلى نجد, وعندما تريد الصلاة تتوجه إلى أميركا).

خالد الاختيار- (حبش في مؤتمر العلمانية في المشرق العربي: نعم لفصل الدين عن الدولة؛ والمتدينون ملح أرض سوريا المقدسة)- godo.checkpoint@gmail.com

تنشر بالتعاون مع سورية الغد (6/2007)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon