قراءة في رواية "على قيد الخوف"

سأقرأ هذه الرواية الموسومة (على قيد الخوف) انطلاقاً من رؤيتين: الأولى أن دور الكاتب ينتهي عند كتابته آخر كلمة في نصه، والثانية أن كلَّ قراءةٍ لنصٍ هي كتابةٌ جديدة له.

 طالعني الإهداء الشعري فأدهشني بلغته المعجونة بحكمة تنمُّ عن خلفية ثقافية ومعاناة اجتماعية، تلفح إنساناً مقيداً بسلاسل الجهل في سجنٍ من المحرمات، من البداية كانت "رولى" تصرخ بصوت عالٍ ناشدة الحرية وبحقها في الحياة "إن بؤرةَ نورٍ قادرةٌ على مسح أكوام الظلام".
 رأيت رولى تصعد جلجلتها حاملة صليبها من الصفحات الأولى "أدور لأفتتَ أعصابي إلى طحين ذكرى، فلا هو يصبح خبزاً يسدُّ جوع معرفتي ولا الريح تتركني المُّ ما تبقى لأبقى"، معبدةً درب آلامها بصوت ناي شجي حزين "أهدي خوفي لأمسك نبضات الحياة ونحيا معاً قلباُ بقلبٍ ويداً بيد"، ناثرةُ على جانبي طريق آلامها جملاً قصيرة، وكأني بميسون تلقن رولى بما تكلم به حكماء الرواقيين، وشيوخ المعتزلة الذين رتلوا آيات الحكمة في مساجد بغداد، لأنها "تخشى من رائحة الجهل القابعة تحت رؤوسنا". فهل مهدت محنة المعتزلة سقوط بغداد تحت أقدام المغول؟.
 تبدأ رحلة رولى من القرية "هل أعود للبحث عن عائلة لي في تلك القرية التي أقفلنا عليها حتى الذاكرة؟" لتصلَ إلى بيروت التي التهم بحرها باخرةً حملت الوالد إلى البرازيل، وتأتي معاناة الأم وقد أصبحت بلا معيل، فتشتغل في أعمالٍ خدمية متحملةً المسؤولية بصمت "لكن المشكلة أن أمي كانت تسند جداراً من الوهم".
 تابعت رولى دراستها الجامعية متساءلةً: "لماذا لا يجرؤ أحدنا على الصراخ إلا في منزله؟" لنصل إلى إجابة مقتضبة "بلدٌ قايض بمفكريه أسلحةً لدمار الباقي" فيسكنها خوف يعشش في داهاليز الذاكرة.
ثم تتحدث عن والدها الذي يميز بحكم تجارته الثمين من الرخيص، فيقرر الرحيل، وترى في رحيله هروباً من المسئولية، وبعد خمسة عشر عاماً ينزل سلم السفينة، فاخضع الكتب التي كانت تقرأها للمراقبة، ناشدته رولى: "خلعتََ يا أبي سروالك الخارجي، يبقى أن تخلعَ سروالَك الداخلي، وتخرج َ من عقدة القطيع" كما أخضع التلفاز للمراقبة القانونية، وتسأل: ماذا فعلت في غربتك الطويلة يا أبي؟.
 ربما كان هذا الوالد سليل عائلةٍ عاش أمواتها زمن الخوف والجوع والاستبداد، فقد كان أجداده شديدو الإخلاص لأجدادهم، فتخيل كم عاهة تحتمل هذا البلد التي "زارتها الحضارة مؤخراً بأشرطة الفيديو وأجهزة التلفاز، لكنها ظلت محتفظة بكل عاداتها" بلد تشتري ما أنتجته الحضارة وتلفظ الفكر الذي تنهض عليه تلك الحضارة "بلد توأد فيه الأنثى لو عرفت أن لعرقها رائحة الدعوة". وتبلغ رواية "على قيد الخوفِ" ذروتها في منتصفها منتظرةً أن يتحول الأخرُ إلى سندٍ لا إلى قيدٍ محذرةً "من يشغله عالمه الداخلي لا يرى خارجه".
 يذهب الأب والأم بحادث سيارة غامض، زواج الأخت ميس إلى ثري خليجي، لأن الأب قطع له عهداً في البرازيل بأن يزوجه ميس رافضاً زواجها بمن تحب، وتكشف شخصية الأب عن نفسها في النصف الثاني من الرواية "والدك كان مبعوثنا السري إلى مختلف دول العالم وبأسماءٍ مختلفة وجوازات مختلفة أيضاً". "وتذهب ميس أيضاً بعملية تفجير لمبنى سفارة أجنبية، وتتسلل رسالةٌ من تحت الباب تبلغها عن رصيد بمبلغ ثمانية مليون دولار، وتجد قلماً فضياً وشريط كاسيت في حقيبة ميس، التي لها قلبٌ بل حديقةٌ تشتعل بشتى ألوان الحب، وتفارق هذه الغالية الحياة تحت أنقاض السفارة المدمرة.
 هنا تبدأ الرواية تغادر ذرة ما وصلت إليه، وتنزل السفح الآخر، وتفتش رولى في جيوب الوالد فتجد الميداليات المتشابهة ويظهر فؤاد وفريد والمنظمة السرية، وتعلم أن والدها عاد إلى البلد، إلى العائلة بقرار، فهو لم يمت بحادثٍ عادي، وقد أصرت الأم أن ترافقه في رحلته الأخيرة، لقد حول الأب النسبي لديه إلى مطلق، وهجر المطلق المتعالي.
 ربما غطى الحوار الساخن بين رولى وفؤاد على الوهن الذي دبَّ بمفاصل الرواية في هذا الجزء، يقول فؤاد الوحيد الذي نجا من عائلته في جنوب لبنان: "هكذا أحب الأنثى مع إضافة بسيطة قطعة بسكويت مغطسة بالشوكولا".
 تتسلق ذاكرتي كقارئ أعيد صوغ رواية "على قيد الخوف" بعضاً من الروايات العربية التي نحت هذا المنحى "الرحيل بين السهم والوتر، الوطن في العينين، وليمة لأعشاب البحر، ثلاثية ذاكرة الجسد، الميراث، الوباء..." لكن هذه الرواية فاجأتني، بشاعريتها، بجرأتها عندما تتحدث عن الحياة والحب والأنثى والرجل والأب والمجتمع "لأحضانه دفء الشمس حين تداعب خدود وردة وتترك عليها ألق الألوان" متسائلةً في ذات الصفحة: "كم كان ينقصني من الثقة لأقف أمام رجلٍ دون أن أرتجف فأشيح بأنوثتي عن دعوى رجولته؟" وتعلن بلا خوفٍ: "أحتاج إلى صدرٍ أضع عليه رأسي وأبكي صدراً يسع كل صراخي وخوفي واضطرابي وفضولي"، ويخاطبها فؤاد مسئول المنظمة السرية: "دعيها تنضج فمذاقها ألذ وهي تقطر عسلاً وشهوة". لقد أسكرتني "على قيد الخوف" برائحة الخبز المخبأة في قمح صدر فؤاد التي كانت تشوى على تنور صدر رولى.
 إن رواية "على قيد الخوف" للأديبة ميسون جنيات – إصدار اتحاد الكتاب العرب – عملٌ روائي جديرٌ بالقراءة، لأنها تطرح أسئلةً بلا أجوبة، وتجيب عن أسئلةٍ لم تسألها، وتخطت بشجاعة وجرأة و شاعرية مرهفة عتبة المحرم جنساً كان أم أباً كرمز للسلطة الأبوية، ثم أمسكت بمبضعٍ لا يرحم وغاصت في ثنايا المجتمع، الذي قايض بمفكريه أسلحةً لدمار الباقي.

رواية " على قيد الخوف "
الأديبة ميسون جنيات
إصدار اتحاد الكتاب العرب


حمص 8/4/ 2005
عبد الحفيظ الحافظ - (قراءة في رواية "على قيد الخوف")


خاص: "نساء سورية


التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon