عرض للفلم السوري "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"

بيروت ـ فاديا: الطبيبة النفسية الهادئة ذات الابتسامة الخجولة والنظرات الحادة والشعر المجدول. أما رولا، مديرة الفندق التي تنفخ دخان سيجارها الفاخر،

 فإنها تتصرف بحركات تغوي الآخرين حيث طلت أظافرها بلون لامع داكن، حتى أنه يبدو كاللون الأسود. راغدة: الطبيبة النسائية الساخرة ذات سعال المدخنين القوي والحاجبين المقنطرين وتعابير تكشف عن حزن العالم بأسره.

 هذه هي الشخصيات الرئيسية في فلم هالة العبد الله وعمار البيك "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها" الذي عُرض كأحد أكثر الأفلام إمتاعاً وغرابة التي اختار مهرجان بيروت الدولي للأفلام عرضها. لم يفهم المشاهدون هذه الشخصيات إلا تدريجياً طوال فترة عرض الفلم التي تستمر لحوالي الساعتين.

الفلم الجديد لهالة العبد الله وعمار البيك، عبارة عن فسيفساء من الأعمال الصغيرة، أكثر منه عملاً سينمائياً متكاملٌ بحد ذاته

 الفلم لا ينتمي إلى نوع الأفلام الروائية أو السياسية الاجتماعية الوثائقية. بل يعتبر عرضاً شخصياً يتألف من أصوات وصورٍ متفاوتة مجتمعة مع بعضها بشكل غير مترابط بواسطة اللغة (حكايات، ذكريات، قصائد، أحاديث متفرقة وسرد قصصي غير مترابط). يمكن القول أن الفلم عبارة عن فسيفساء من الأعمال الصغيرة أكثر منه عملاً سينمائياً متكاملٌ بحد ذاته.

 "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها" هو فلم تمت حياكته بطريقة معاكسة لما هو تقليدي. حيث لا وجود لإخراج بالمعنى التقليدي للكلمة، بل إنه عبارة عن مشاهد متفرقة جمعت عن كثب ووضعت إلى جانب بعضها. حركة الكاميرا كانت مرتجلة أما عملية المونتاج فقد كانت حادة غير سلسة. صوّر كل من هالة وعمار فيلمهما بواسطة كمرتي ديجيتال ومن ثم جمعا كل ما تم تصويره وحولاه إلى الأبيض والأسود.

 يجمع الفلم بين تصوير داخلي لشخوص تتحدث عن قرب للكاميرا بشكل يثير التوتر، إلى جانب تصوير خارجي ضمن مواقع طبيعية ذات مساحات شاسعة. يُظهر التصوير تفاصيل بشرة الإنسان التي تظهر تقدم السن وتراكم المكياج على الوجه والتوقف المفاجئ عن الكلام ولحظات تفجّر الضحك أو البكاء، لحظات الأسى والندم التي تتلوها صور لبحر أسود مضطرب، وشبكات عنكبوت على أحد الجسور وفناء تنتشر فيه أغصان الأشجار.

 يتألف الفلم بشكل كامل من مجموعة من اللقاءات وبعض الصور الثابتة والمواد التي تم تسجيلها أثناء استكشاف أماكن التصوير ولقاء بين صانِعَي الفلم ومرسيل خليفة الذي ساهم في وضع موسيقى الفلم. وبكلمات أخرى، يمكن القول أن الفلم تم عرضه بالشكل الصريح الذي تم تسجيله فيه.

 إن كان صانعا الفلم قد قاما بذلك كنوع من التجريب المصطنع، لكان من غير الممكن تحمّل الفلم ولأصبح كفلم هواة تجريبي غير متقن. لكن من المرجح أن يجد العديد من متذوقي الفن السابع أن الفلم يستحق المشاهدة. وفي النهاية، وعلى الرغم من أن ذلك قد يبدو مناقضاً لما قلناه سابقاً، إلا أن محتوى الفلم وطريقة إخراجه ينصهران معاً. بينما كان عمق الفلم وقوته وروح المباشرة التي تسوده، كفيلاً بجعل الفلم يستحق المشاهدة حقاً.

 إذا، ما هي قصة الفلم بالتحديد؟

 يدرك المشاهدون شيئاً فشيئاً أن فاديا ورولا وراغدة كن قد سُجن سابقاً. وكذلك هو الحال بالنسبة لصانعة الفلم هالة العبد الله وزوجها الرسام السوري يوسف عبدلكي.

 حيكت قصة عبدلكي بعناية داخل الفلم. فبينما تقيم هالة في سورية، يسافر عمار إلى باريس حيث أقام يوسف في المنفى على مدى عشرين عاماً. يصوّره عمار وهو يرسم ويتذوق القهوة ويتحدث على الهاتف. يجول في أحد الأيام إحدى الساحات العامة برفقة ابنته. وفي صورة تآمرية للكميرا، يفتح يوسف محفظة أوراق بنية اللون ليُخرج منها لافتات تظاهرة مزخرف عليها اسم سورية. تتلوها مظاهرة صغيرة كئيبة.

 عندما يشرع الفلم في توثيق العودة المؤثرة والمفرحة ليوسف عبدلكي إلى دمشق، يدرك المشاهد أن عبدلكي هو الراوي الحقيقي الوحيد في الفلم. (كانت عودته إلى سوريا تستحق الإشارة لكونها من بين أولى رحلات العودة إلى الوطن التي دلّت على وجود عفو غير رسمي عن عشرات المنفيين من المعارضين ونشطاء حقوق الإنسان الذين اعتبروا في مرحلة سابقة أشخاصاً غير مرغوب بهم في سورية).

 لا يمكن للمشاهد أن يدرك عن طريق أي إشارة مباشرة سبب تعرض هؤلاء الرجال والنساء للسجن. أما الاستخدام المتكرر لكلمة "رفيق" فإنه يقدم عدداً من التلميحات بالإضافة إلى كلمات كالعدالة والديمقراطية والاضطهاد والفقر والمعاناة. تنتمي العديد من الشخصيات التي أجريت معها مقابلات في الفلم إلى نوع من الأقليات. لكن يترك للمشاهد إلى حد كبير حل أحجيات العمل بنفسه.

 يتعامل الفلم مع الأثر السياسي الذي تركه السجن على شخوص العمل وحياتهم من زاوية ضيقة دون فتح الباب كاملاً على السياسة. يمكن القول أن فاديا ورولا وراغدة تلبسن معاناتهن وكأنه جزء من جسدهن. ولكون هالة تعرفهن جيداً (حيث تدرك من خلال العمل أنهن صديقات منذ زمن طويل) فإن حديثهن النسائي الحميمي له تأثير رهيب على النفس.

 ما الذي فقدته هؤلاء النسوة؟ ماذا كانت نتيجة تجربة السجن على حياتهن؟

 بالنظر إلى ريعان شبابهن وطفولتهن وسن رشدهن، من المؤكد أنهن فقدن الإحساس بالمثالية والأمل وشعور المناعة أمام صعاب الحياة. وكما تشرح رولا، كانت شابة لا يقف في وجهها أي شيء. ولكنها تقول أن الحياة جعلت منها الآن مطواعة، قليلاً، قليلاً فقط. رغم محاولتها أن تخفف من أثر هذا الشعور، إلا أنه اعتراف قاسٍ ومؤلم بأن تقول أنها انهزمت وخسرت لعبة الحياة.

 وكنساء يتقدم بهن العمر، فقد خسرن أيضاً إلى حدّ ما، شبابهن وجمالهن. تستمر هالة حتى نهاية الفلم بتوجيه الكاميرا إلى مرآة الحمام حيث تتلمّس يداها وجهها، مشهدٌ يمكن وصفه بمجلدات رغم أنه صامت.

 تتحدث راغدة بشكل معبّر عن الوحدة التي عانت منها عندما خرجت من السجن لتجد زملائها القدامى إما غادروا البلاد أو تفرقوا. تقود رولا الفلم إلى ذروته العاطفية عندما تتحدث عن أن رائحة المطر عندما يهطل على الأرض في فرنسا يرجعها ويذكرها بسورية. إن جملة العواطف التي تُشحن بها هذا الكلام واستخدامها لكلمة "الأرض" مراراً وتكراراً، لا تجعل المشاهد يشم رائحة الأرض فقط، بل يتذوقها أيضاً. وأثناء عملية إخراج فلم كان ضرورياً أن يشترك عمار في صنعه، تحاول هالة جاهدة لكي تشير للجميع أن كل الأشخاص الذين اشتركوا في الفلم فقدوا روح الشعر من حياتهم.

 يشبه هذا الفلم نباتاً معترش ينمو عليك. مسار الفلم بطيء وغريب في البداية، لكنه يتسارع كلما اقترب من النهاية التي تتحدث لنا هالة فيها عن قصتها وكأنها تدمر سداً، أو بالأحرى قصة الحب التي تربطها مع يوسف عبدلكي. يعيد هذا الفلم التقاط اندفاع الشباب الطائش التي لم يعد سوى الماضي بحسب ما قالته رولا سابقاً.

 عُرض الفلم السوري "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها" الشهر الماضي في مهرجان البندقية السينمائي ونال جائزة اتحاد الوثائقيين الإيطاليين. ويمثل عرضة في بيروت، ظهوره الثاني على الساحة الدولية. يبدو واضحاً أن الجمهور استساغ هذا الفلم. رغم كل الحديث الفارغ عن الصداقة والأخوة والقيم المشتركة بين سوريا ولبنان وكل الحديث المشحون عن العداء بينهما، يظل التبادل الثقافي بين البلدين ضيئلاً.

 يحمل الفلم اسم بيت من قصيدة للشاعرة السورية دعد حداد التي توفيت عام 1991. يتناول الفلم المبدأ القديم القائل بأن الشخصي هو سياسي ويقلبه رأساً على عقب. كانت نتائج ذلك جميلة ومغرية دون أدنى شك ومثيرة للاهتمام لأنها تملأ فراغاً كبيراً. ومن أجل ذلك أظهر صانعاً الفلم أكثر جروح الإنسان وانكساراته حميمية وشاركانا بها.

بقلم: Kaelen Wilson-Goldie – عرض للفلم السوري "أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"
جريدة الدايلي ستار (Daily Star)- عدد 11/10
ترجمة: باسل جبيلي (بتصرف)


خاص: "نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon