رجولة مضخمة إلى أين..؟

حاولت الغوص في مشاعر الانكسار التي أحسست بها وأنا أرى، على شاشة التلفاز في موطني الجديد كندا، مشهد إعدام رجل كان، حتى وقت قريب، هو مَن يصدر الأوامر بالإعدام! وكنت أتساءل: لماذا هزني هذا الإعدام إلى هذه الدرجة؟ وبقدر غموض الإحساس، كان غموض أفكاري!

لم تكن لدي رغبة في حمل هذه المشاعر ولكنها غمرتني وبحدة مزعجة وكنت أصرخ في داخلي لماذا؟

وبالمصادفة وأنا أقرأ في كتاب عن تاريخ الحضارة بدأت الأفكار بالاتضاح شيئا فشيئا وبدا لي ما كان غامضا في البداية أقل غموضا ولكنه أكثر ألما.

فقبل أن تدخل البشرية مرحلة الزراعة كان الإنسان القديم يعيش مرحلة الصيد، وكان الذكور هم من يطارد الفريسة في حين كانت الإناث تهتم بالأطفال وبجمع جذور بعض النباتات لحين عودة الذكور, وبالطبع لم تكن مهمة الذكور محصورة بإحضار الطعام وإنما أيضا بحماية الإناث والأطفال. ولم يكن مثل هذا السلوك محصورا بالوعي وإنما كان غريزيا بدرجة أكبر، فالحفاظ على استمرار الحياة كان الهدف الغريزي للبقاء.

تطورت الحضارة وخلق الوعي الإنساني المتطور أبعادا جديدة للحياة والوجود معا، وبزغت مفاهيم وتصورات جديدة وعديدة، منها مفهوم الذكر والأنثى ومفهوم الرجل والمرأة، وامتلأت حياة الإنسان المتحضر بالعديد من الرموز فالوطن يرمز للأم للأنثى المرأة على حد سواء واستمرت مهمة الذكور أو الرجال في تأمين الحماية حماية الأرض والوطن الرمز.

هذا الانكسار الذي أحسست به عندما شاهدت الإعدام ذاك على شاشة التلفاز هو في الحقيقة انكسار صورة الرجل في داخلي، جرح نرجسي للأنثوي الموروث، انكسار ذكر برجولة مضخمة وهمية فشل في حماية الوطن وانتهى على أيدي رجال غرب استباحوا الوطن والنساء.

فالإناث والأطفال والأوطان تستباح لأنها تركت أمانة في كنف ذكور رجال فشلوا ولا يزالون يفشلون في الحماية. وبدل أن يواجهوا ضعفهم يستبسلون في تعزيز إحساسهم الضعيف بذكورتهم برجولتهم، مما يستهلك الكثير من الطاقات، فتارة يلبسون جلباب الدين ويجتهدون بالفتاوى الدينية لما يحل وما يحرم على المرأة عمله، وكيف يجب أن تلبس، وأن تسير، وأن تتنفس، وهل ترى ضوء الشمس أم لا، وهل تتكلم مع الرجال أم لا، وهل تصح الصداقة بين الفتى والفتاة و..... إلى ما لانهاية.....

وتارة أخرى يرتدون جلباب السياسة، الوجه الثاني لنفس العملة فكلما زاد القادة والسياسيون من إحكام قبضتهم، بالقوة، بالمنع، بالزجر، بالترهيب، والسطوة، كلما ازدادوا إحساسا برجولتهم وذكورتهم المنقوصة والضعيفة أصلا، كما في هذه الحالة.

وتارة أخرى يضعون جلباب التقدمي المنادي بالشعارات السياسية والاجتماعية لتحرير المرأة والمجتمع، وعندما تصل الأمور إلى درجة المواجهة، تصبح التضحية غالية الثمن، ويفضل في هذه الحالة العودة إلى ارتداء جلباب الدين، لأنه أكثر فاعلية وحماية، وأكثر استحقاقا لتحمل دفع الثمن، لأن ما يعد به الدين في الحياة الأخرى، أكثر استحقاقا مما تعد به الحياة الدنيا، ذكورة مضخمة بصورة أخرى.....

وتارة يختبئون وراء العادات والتقاليد، فيدافع الرجل المنقوص الرجولة عن شرفه ويغسل عاره بقتل الأنثى أو المرأة المستباحة من رجل آخر، ولهذا الموقف دلالته أيضا، فبدلاً من أن يدافع عن المرأة أو الأنثى ويواجه الذي اعتدى عليها رجلاً لرجل، يقتلها لأنه لا يتحمل أن يواجه فشله في حمايتها، لا يتحمل أن يواجه ضعفه، ولهذا يعتقد بأن إنهاء حياتها قتل لضعفه هو، فكلما ضعف إحساس الذكر برجولته وذكورته، ازدادت شراسته ضد المرأة ليواري ضعفه، خوفا من أن تكتشفه الأنثى، مستبدلا إياه بمظهر البطش. أو وضع تقييدات أكثر على سلوكها ومظهرها.

فليراجع هؤلاء الذين مازالوا يرفضون تغيير قانون جرائم الشرف وقانون منح جنسية النساء لأولادهم ذواتهم بصمت. فسوريا الدولة الخامسة عالميا في جرائم الشرف, رجال يقتلون الحياة بدل حمايتها! ورجال فاقدي الثقة برجولتهم كيف يمنحون الثقة للإناث كحق منح الجنسية مثلا.....؟
والبعض الآخر يزداد شراسة إزاء غيره من الرجال المختلفين عنه، الذين كان من الواجب أن يعتبروا شركاءه في حماية الإناث والأطفال والوطن! فكل اختلاف عن الآخر يمكن أن يخبئ بين طياته تعرية موجعة للضعف، الذي يتم الهرب من مواجهته. الأمر الذي يمكن أن يدفع إلى مواجهة ذاتية مؤلمة غير محتملة. لذلك يضحي تصيد الاختلاف وإزالته، محاولة يائسة لإخماد الأصوات الداخلية المنبهة والمحذرة للخلل، فالإنسان لا ينفصل عن ذاته في علاقته مع الآخر سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي أو الثقافي، أو حتى على صعيد الأفراد الذين يتربعون على كراسي السلطة.

تطورت الحياة وتغيرت، ولكن حقيقتنا كبشر بدائيين تقبع عميقا في داخلنا، في إحدى الزوايا لم تتغير. ما تغير هو أن حياتنا صارت أكثر امتلاءً بالرموز، حتى ليصعب علينا أحيانا حلها. وما تم تحويله إلى رموز هو صورتنا الذاتية عن أنفسنا وعن العالم المحيط بنا.

ولا يعدّ الإبداع الإنساني سوى محاولة لإعادة صياغة تلك الذات البدائية الفضولية أبدا لاكتشاف واختراع للجديد المختلف والمتبدل. فبعض الشعوب اختارت أن تترك لموروث هذا الإنسان البدائي أن يعبر عن نفسه بصورة حضارية وفردية. ففي عيد القديس فالنتاين في كندا أحيا مجموعة من رجال الإطفاء والشرطة وعائلاتهم ذكرى أولئك الرجال الذين ضحوا بحياتهم في سبيل الحفاظ على حياة الآخرين، وألقى أحد الأبناء والبنات الذين فقدوا والدهم كلمة لم تغب فيها فكرة كيف أن هذا الأب، كان رمزا للبطل والأب كما عبر الابن، وسندا حاميا ومرشدا كما عبرت الفتاة.

بينما اختارت شعوب أخرى سلب التاريخ منها رجولة الذكور، وأحرق الأوطان والهوية والنساء، أن تتوارى في أوهام مضخمة عن ذاتها، وعن الآخر الشريك المختلف، لينتهي بعضها كما انتهى صدام حسين على مشنقة تاريخية أخرى لفشل تاريخي محرق ومدمر آخر.

وبدل أن تتم مواجهة الانكسار، يتم الإسراع في ترقيع الوهم، الذي شارف على الانكشاف. وما العمليات الإرهابية التدميرية الموجهة نحو الغرب أو الداخل سوى تعبير عن الصراع العميق الذي يعيشه بعض الأبناء لآباء برجولة مشوهة ومنقوصة مهددين بصور رجولة سوية حامية, فالعنف يعكس دائما حدة الصراع الذاتي الداخلي. 

والذين ينفذون مثل هذه العمليات هم أفراد في النتيجة وليسوا آلات مبرمجة. فلا نتوقعنّ حقا أن العنف والتدمير يمكن أن يكونا لأهداف نبيلة، وإلا لما استقلت الهند على يد غاندي ولما انتشرت المسيحية. 
وبقدر ما تبدو مواجهة الواقع وحقيقتنا الذاتية مؤلمة، بقدر ما يتطلب الأمر موقفا رجوليا للمواجهة، لأن ما سيتركه الرجال الحقيقيين وراءهم ليس التاريخ المشرف فقط وإنما وطناً وأسراً وهوية يفخر بناتهم وأبناؤهم بها أمام الآخرين، ورجالا ونساء سعداء بذكورتهم وأنوثتهم.

لم يكن الرجل في العصور السحيقة، والذي كان رجلا حقا، يستبسل لارتداء الجلابيب والأقنعة لموقفه الطبيعي، من الرجال الآخرين شركائه في الصيد وتأمين الحماية، والغريزي من شريكته في الحياة ومعينته في توفير الطعام. ولم تكن العلاقة الجنسية في تلك الأزمان سوى تعبير عن رابطة اجتماعية ونفسية أولية بين كائنين يحتاج كل منهما الآخر للبقاء. فعندما كان يفشل الرجل في الصيد ويعود منهوك القوى، تكون المرأة في انتظاره جامعة ما يكفي من الطعام لكليهما.

ولذلك فحماية أنثاه هي حماية للوجود والبقاء، فموتها أو استباحتها يعني موته واستباحته. في استمرارها يتمثل بقاؤه وفي موتها يكمن عدمه..
--------

أهدي هذه الكلمات لكل الرجال والنساء الحقيقيين أصحاب الرأي والكلمة الحرة الذين يقضون حياتهم في السجون أو تحت التعذيب، والمناضلين والمناضلات الآخرين لبناء المجتمع المدني.. فأنتم الذين تحمون الوطن الرمز.


بانة محمد حسن الصفدي-  كندا- (رجولة مضخمة إلى أين..؟)

خاص: "نساء سورية"

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon