مشروعية قصيدة النثر (الدرس) لـ منذر المصري نموذجاً

بات بدهيّاً بعد سلسلة طويلة من الدواوين الصادرة في حقل قصيدة النثر، عبر أكثر من نصف قرن، و بعد كمٍّ لا بأس به من الدراسات التي تناولت هذه القصيدة بالدراسة والتمحيص.
أنّها ـ في نماذج كثيرة منها ـ حقّقت وجوداً أصيلاً على أيدي أقلام عدّة، ما يشرّع لها هذا الوجود في ساحة الأجناس الأدبية، ولا يُبقي أدنى شكّ في إطلاق تسميتها على هذه النصوص التي أبدعها مبدعوها وهم واعون جيداً لما يتطلبّه عالم قصيدة النثر منهم، لذا جاءت نصوصهم قصائد نثر أصيلة. ‏
وإنّ الدائرة لَتتّسع في حال أراد الدارس أنْ يختار نماذج من قصيدة النثر الجديرة بالدراسة، فكتّابها امتدّوا على حقبةٍ زمنيّة ليست بالقليلة، وهم مستمرّون حتّى هذا اليوم، إلاّ أنّ الاختيار هنا، هو الاحتمال الوحيد الذي لابدّ من ضغط زرّه.

بغضّ النظر عمّنْ هو محمد منذر المصري، ليس من باب قتل المؤلف ـ فالمصري هو رائد من روّاد قصيدة النثر العربية لا السورية فحسب ـ بل لأنّ الفسحة المكانية هنا، والزمنية كذلك، تفترض الالتزام بنصّ القصيدة بالدرجة الأولى، لذا ومن دون مقدّمات، إنّ الاتجاه مباشرة إلى موضوع قصيدة (الدرس)، يجعل المتلقي يقع على حقيقةٍ تقول إنّ الحياة هي المدرسة التي يعيش فيها الإنسان تجاربه الكثيرة، فإما أن ينجح ويسجّل نجاحه هذا، وإمّا أنْ يخسرَ القليل ويتعلّم الكثير من محاولته الخاسرة تلك. إذاً، موضوع القصيدة هو ذاتية الحياة وطبيعتها التلقينية للحِكَم والدروس العظام، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ الموضوع المبطّن في هذه القصيدة هو القدرة الكامنة في الإنسان على التفاؤل رغم صعوبة الحياة: ‏
إذاً... الوقتُ لم يَفُتْ ‏
و ربما غداً أوانُ كلِّ شيء ‏
لقد كتب منذر المصري القصيدة الشفوية بامتياز، تلك التي يسهل وصولها إلى القارئ، لأنها تتناول موضوعات من نبض الحياة، مع عدم تنازلها عن الفنيّة (الشعرية)، ومع احتفاظها بأشكال عالية منها، وقصيدة (الدرس) هي من الجو نفسه، حيث تطرح فكرة (الحياة المدرسة) عبر خطابٍ إنساني شفيف، يوجهه الشاعر لأحد الأصدقاء الذي قضى معه أياماً غير قليلة على ما يبدو، بين المحاولة والطموح، وبين الوصول ومشيئة القدر. و ما يميز خطابه هو اللغة الذي أبدعه من خلالها، وصياغاته المتوهجة، لاسيما مطلع القصيدة: ‏
ما يجعل الذاكرة من دمٍ ولحم ‏
هو أنت ‏
فاستخدامه للاسم الموصول (ما)، هو ما يجعل الصياغة متوهجة، ويجذب القارئ ليكمل ما سيلي، ويشوّقه ليعرفَ ما هو هذا الشيء الذي يجعل الذاكرة من دمٍ ولحم، وتأتي الإجابة: (هو أنت)، لِتُحْدِثَ تلك الدهشة وتلك الهزّة الشعورية في نفس القارئ، فالمقصود بالضمير (أنت) وكائن بشري وليس أي كائن، بالرغم من أنّ الاسم الموصول (ما) يستخدم لغير العاقل، وهذا ما يوقع الدهشة في النفس. ويأتي الشاعر في قصيدته بصورٍ تحمل من الطرافة ما يدفع للتأمل فيها ملياً، فكيف لذاكرةٍ أنْ تكون من دمٍ ولحم، ولماذا؟.. إنّ في هذه الصورة إشارة إلى استمرار حضور المخاطَب في ذاكرة الشاعر، فبالرغم من خلو القصيدة تماماً من إيراد أنّ هذا المخاطَب قد غاب، إلا أنّ السياق الذي تكلّم به الشاعر، يوحي بهذا، وهنا مفاتيح قصيدة النثر، فهي قصيدة اعتادت الإيحاء لا المباشرة، التلميحَ وليس التصريح. ‏
و تتوالى الصور البلاغية في القصيدة على نحو يحفز القارئ لتحليلها، وإذا بهذا التحفيز إيجابي مثمر، ذلك أنّ هذه الصور من النمط الذي يستطيع المرء سبره والإمساك باللقطة الإيحائية التي يبثّها، أي أنها ليست من النمط الذي يكثر حضوره في نصوص أخرى تتسم بالغموض والانغلاق، ليس ذلك فحسب، بل إنّ الصور البلاغية في هذه القصيدة تتسم بتكاملية تتفق الصور فيما بينها على تسليم رايتها تباعاً، لتؤدي في النهاية ـ مع آخر صور القصيدة ـ المقولةَ التي أراد الشعر طرحها، فمثلاً يقول: ‏
تقضمُ أوراقَ الكينا المرّة ‏
و تدورُ بها على أنوفنا ‏
(أيامٌ بنفس المذاق ستأتي ‏
تذكّروا هذا) ‏
فهو يرمز بمرارة أوراق الكينا إلى الأيام الصعبة التي عاشها ذلك الرجل الذي تخاطبه القصيدة. ‏
وتأتي الصورة اللاحقة لتشدَّ على يد الصورة السابقة حيث يقول: ‏
فلقد خسرنا الكثيرَ حقّاً ‏
لكن عظامنا باتت أشدّ غلظةً ‏
وظلالنا أشدّ كثافة ‏
وفي صورة العظام والظلال، تأكيدٌ على مقولة صقل الحياة للإنسان عبر التجارب الصعبة والدروس الكبيرة. ‏
وتُكمل صورُ القصيدة على هذا النحو، حاملة الراية نفسها، راية الحياة التي تقسو فتصقل: ‏
أما سمعتَ بأفعى نبتَ لرأسها ‏
جسدٌ آخر ‏
وشجرة خرج لجذعها ‏
رؤوسٌ أخرى ‏
إلاّ أنّ ثنائيةً لافتة يجدر التوقف عندها، هي ثنائية (القش والحطب) في قوله: ‏
وما حَزَمنا في رؤوسنا ‏
من باقات أمل ‏
بدا وكأنّه قشٌّ ينتظر النار ‏
لكنّه كان حطباً ‏
فيبدو من السياق الذي وردت فيه هذه الثنائية أنها ثنائية ضدية بامتياز، أو بالأحرى مفارقة لعبت دوراً فنياً مجازياً، ففي حين رسخ في الذهن الجمعي أنّ وجود القش هو شيء يُؤخَذ الحذر منه، نظراً لكونه سريع الاشتعال، قد تؤدي شرارة صغيرة بالقرب منه إلى إحداث حريق مخرِّب، فإنّ مفهوم الحطب راسخٌ على أنّه الشيء الذي يُشعل النار بتروٍّ وبإرادة واعية، وهنا يكمن جمال المفارقة. و لا يخفى أنّ هذه الصورة أيضاً، تؤدي الدور التكاملي نفسه الذي أدته الصور السابقة: ‏
والآن ‏
وأطرافنا يضيئها الحريق ‏
لقد أُضرِمَ الحريق بعد انتظار نضوجه في الحطب، لكنّ الحريق هنا يحمل معنى إيجابياً لا معنى تخريبياً، فهو الحريق الذي يضيء لا الذي يحرق. ‏
ويعود الشاعر ليكرّس جملة البداية نفسها في آخر مقاطع القصيدة، مع اختلاف بسيط يدعم ما بدأ به: ‏
ما يجعل الذاكرة من صوّان ‏
هو أنت ‏
فالصوّان هنا، هو التأكيد على ثبات حضور المخاطَب في الذاكرة، ثمّ يأتي ما يؤكد أنّ أوراق الكينا المرّة هي حقّاً الأيام: ‏
تقضمُ سني العمر المرّة ‏
إنّ قصيدة (الدرس) هي نموذجٌ رفيع لقصيدة النثر التي كُتِبَتْ بحبرٍ عربي يشرّع كيانها بين أخواتها من القصائد على تنوّع أشكالها، ويدحض تهمة (التبيئة) التي لطالما طُعنَ بمديتها مؤيدو هذا الكائن الشعري المميز.


نادين باخص، (مشروعية قصيدة النثر (الدرس) لـ منذر المصري نموذجاً)

صحيفة تشرين، ملف الاسبوع الثقافي، (9/8/2008)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon