التدخين والثقافة..

إن ما يشكل الثقافة والذات هي المعلومات التي تتفاعل مع نمط الشخصية المرتسمة جينياً بهندسة إلهية دقيقة، والمعلومات على إطلاقها هي كل ما يحيط بنا، ولو علمنا أن عدد المعلومات التي نتلقاها في الدقيقة الواحدة (عن طريق حواسنا المختلفة) يقدر بنحو 2.4 مليون معلومة،

 وأننا نستطيع معالجة ما بين 300 إلى 500 معلومة تقريباً في الدقيقة الواحدة على مستوى الوعي، وما تبقى منها يعالج في مستوى اللاوعي، لأدركنا الكم الهائل مما يحيط بنا من معلومات. وبعلوم الكومبيوتر تقاس المعلومة بالبايت ومضاعفاته أي الكيلو والميجا والجيجا والتترا بايت، وكل واحدة تساوي 1024 من السابقة لها.

نتائج التدخينوالثقافة هي تفاعل المعلومات مع نمط الشخصية، وهكذا فلكل شخصية نكهة ثقافية مميزة، واتفاق مجموعة من الناس في مجتمع ما حول مواقف معينة تعطي سمات الثقافة المجتمعية والوعي الجمعي ومن ثم التمايز بين المجتمعات.

ومن هنا فالتغيير يحتاج إلى معلومات والتفاعل معها لتنعكس ثقافةً على السلوك الفردي. وبهذا يتمايز الناس بالوعي الفردي بقيمة المعلومات للتجدد والمحافظة على الحيوية الفردية والجماعية.

والتطور يعني الإيمان بالبحث عن المعلومة بشكل دائم، فالمعلومات الحاضرة معنا محصورة دائماً بثلاثة متغيرات هي الزمن والمكان والأداة، وقد أدرك المتطورون ذلك فجعلوا البحث العلمي هو الأرضية المعرفية لهم، أما المتخلفون فارتضوا لأنفسهم ما بين أيديهم من معارف، فتجاوزهم الزمن والمكان وظلوا متجمدين في ثلاجة التاريخ البعيد البعيد.

هذه بداية لموضوع التدخين والثقافة، فقد أحببت أن أدلو بدلوي بعد طول صحبة مع التدخين، وأنا الطبيب الذي أعلم ما لا يعلمه غيري عن أضراره، أردت أن أشهد بخلاصة تجربتي لعل ذلك يفيد في تغيير ثقافة المدخنين، ومنه سلوكهم لعلهم يسعدوا بوصولهم لما وصلت إليه بعد 16 سنة من التدخين بمعدل 25 سيجارة يومياً.

أتذكر البدايات، فقد نشأت في بيئة تربط التدخين بالنضج، وتعتبره عيباً وضرراً للصغار والنساء، وكنت أراقب الكبار كيف يتلذذون بنفث الدخان.. وكيف أن السيجارة ضرورة عند الغضب والسرور والاستيقاظ، وبعد الأكل، وقبل النوم، بل وفي كل الأوقات... كنت أراقب بفضول المتلهف للمعرفة...
لماذا يدخنون؟ وجربت مرة وبخفية أن أدخن فأصبت بدوخة وإعياء، فعرفت وقتها أنني مازلت صغيراً لا أحتملها، ولكن مع الوقت بدأت أحتمل، وخطوة بعد خطوة وعلى مدى أكثر من عشر سنين أصبحت أشعر بضرورة التدخين ولا بد من شراء السجائر !

لا يوجد مدخن يعترف بأنه مدمن، أو أنه يكره التدخين ولا يريده، فالمدخن يدرك أن السيجارة هي شريكة حياة، يحتاجها دائماً ولا غنى عنها ليحافظ على حياته طبيعية، فهي التي تعيد إليه التوازن بشكل دائم، وهو لا يدخنها إلا لأنها ضرورية بوجودها..

التدخين ليس بالإدمان الجسدي الذي يعانيه الكحوليون أو مدمنو المخدرات، بمعنى أن انقطاعه يؤدي إلى أعراض حرمان أو مرض جسماني، بل وكأن للسيجارة تعوُّد نفسي تشغل البال بغيابها، كأن بها مطرقة تعمل بالذاكرة لتنبه مركزاً ما بالدماغ، فذكر التدخين أو رؤية المدخنين يؤدي بالمدخن لأن يسيل ريقه، ويحس بوخز في عيونه، وشبه أزيز في أذنيه، وشعور كأن شيئاً ما يسري تحت جلده، وكلما ركز انتباهه على هذه الذكرى كلما اندفع هذا الشعور إلى الأعلى، فيتحسس جيبه لعلبة السجائر ويتلذذ بالتدخين مخمداً كل ما عاناه، ولهذا نجد المدخن يدغدغ السيكارة قبل إشعالها ليزيد شغل البال، ولينشط كل ما سبق من الأحاسيس، ومن ثم زيادة التمتع بها.

يعيش المدخن حالة صحبة مع السيجارة غير عابئ بكل ما يسمع ويرى ويقرأ عن أضرارها، حتى يستقر رأي كثير من المدخنين بأن حياة قصيرة مع السيجارة أجمل وأحلى بكثير من عمر مديد يقضيه في شوق لها، ومن ثم فليحصل ما يحصل، ولن يترك التدخين مهما كان، وكل من يتكلم عنها بسوء ـ في رأيه ـ فإنه لا يدرك معانيها ولا يقدر معنى الحياة معها.

وهكذا يعيش المدخن دائماً في دائرة معيبة تضيق عليه مع امتداد عمر تدخينه، فالتدخين يؤدي لزيادة التعلق بالسجائر مع الزمن، والتوازن معها أكثر وأكثر، وعدم الاكتراث بمدى الضرر الذي تسببه له.
ومشكلة التدخين أنه بلا أعراض حادة تدفع الشخص للترك، فمع مرور الوقت يصبح ضيق النفس عادة وأسلوب حياة يعتاده المدخن، وكم رأينا من المرضى المستخدمين للرذاذ الموسع للقصبات أو الأكسجين المنزلي أو موسعات الشرايين الإكليلية ومع ذلك يصرون على التدخين، فالمرض لا يثني المدخن عن التدخين، لأنه ببساطة يظن أن كل من ينصحه يتكلم عن غير إدراك لما يحس به ويشعر، وبمن ثم يرفض ترك التدخين، ويصر على الاستمرار!

المدخن يتأقلم مع بيئة خارجية وداخلية وتتأقلم معه، البيئة الخارجية بيته وأسرته ووظيفته وأصدقاءه، والبيئة الداخلية هي جسمه وعقله وحواسه وغدده ومنعكساته..

ولكن.. كيف يمكن أن نترك التدخين إذاً؟ مما يفيد أولاً ذكر فوائد ترك التدخين أكثر من التخويف من أضراره، فماذا يحدث بعد ترك التدخين؟

- يعود النبض وضغط الدم إلى المستوى الطبيعي
20 دقيقة
- ترتفع حرارة الجسم (الأيدي والأقدام) إلى المستوى الطبيعي

- ينخفض أول أكسيد الكربون بالدم إلى المستوى الطبيعي
8 ساعات
- يرتفع الأكسجين بالدم إلى المستوى الطبيعي

- تنخفض فرصة حدوث النوبات القلبية
24 ساعة
- تبدأ النهايات العصبية بالنمو من جديد
48 ساعة
- تتحسن القدرة على الشم والذوق

- تتحسن وظيفة الرئة والجهاز الدوراني
2 أسبوع ـ 3 أشهر
- يخف السعال واحتقان الجيوب الأنفية
1ـ 9 أشهر
- يخف الإحساس بالتعب وضيق التنفس

- تعود الأهداب القصبية للنمو من جديد لتزيد قدرتها على التعامل مع القشع وتنظيف الرئة

- تنخفض فرصة الإصابة بمرض الشرايين الإكليلية القلبية إلى نصف ما عند المدخنين
1 سنة
- تنخفض نسبة الموت بسرطان الرئة الى النصف
5 سنوات
- تنخفض نسبة الإصابة بسرطان الفم، الحنجرة، المريء، إلى نصف ما هو عند المدخنين

- نسبة الموت بسرطان الرئة مساوية لما عند غير المدخنين
10 سنوات
- تنخفض خطورة الإصابة بسرطان الفم، الحنجرة، المريء، المثانة، الكلية، عنق الرحم، والبنكرياس.

- نسبة الإصابة بمرض الشرايين الإكليلية القلبية والحوادث الوعائية الدماغية مساوية لما عند غير المدخنين.
15 سنة منذ أربعة أشهر كنت من أولئك المدخنين وكنت ممن لا أقوى على تركه، والآن أدركت بأن لذة السيجارة وهمٌ يقع فيه كل مدخن، ودعونا معشر المدخنين نحاول ترك التدخين ولو فشلنا لنحاول ثانية، فالتجربة الثانية ستكون أكثر نجاحاً.. والحياة ستكون غير حياة.. فنحن لسنا مدمنين ولكننا مشغولون بوهم السعادة والهدوء والاستقرار الذي يسببه التدخين.

المدخن ليس فاشلاً جنسياً ولكنه يفتقد لكثير من متعة الجنس فالنهايات العصبية النامية ستعطينا أحاسيس أخرى.. والحياة بدون أول أكسيد الكربون أبهى وأحلى وسوف تخرجنا الى رحابة الأكسجين والتنفس السليم والنوم الهانئ الذي يفتقده كل المدخنين.. ولنتذكر دائماً هذه الصورة والفرق الكبير بين رئة المدخن ورئة غير المدخن:
Smoking-Bakira)))))))))))))))))))))))))))))))))


والحياة بدون تهديد المرض القلبي والرئوي والسرطانات العديدة أكثر أمناً وأماناً لنا ولأولادنا.. الاقلاع عن التدخين ليس صعباً، وما يلزمه هو المعلومات والبيئة الخارجية الفاهمة للدور والتغيير والمعرفة عن البيئة الداخلية.. فإلى كل الزوجات المنكوبات بآفة تدخين الأزواج لا تسكتن وابقين مذكرات وقارعات لجرس الإنذار.. ولابد لي أن أذكر هذه الحادثة:
 بعد أيام من تركي للتدخين وهي فترة كنت فيها أكثر استثارة – وقد استمرت حوالي أسبوعين – وأكثر تعرضاً للتوتر والنرفزة، أمسكت بالسيجارة فصرخت ابنتي وقالت: لا، وبدأت بالبكاء وهي ابنة العشر سنين.. قلت لها والله لن اقترب منها ما حييت !

وقبل أربعة أشهر لم أكن قادراً على إكمال هذا المقال دون تدخين 20 سيجارة على الأقل، وأنا الآن أكتب وأقول: يا ليتني لم أدخن قط..


د.عدنان بكيرة، (التدخين والثقافة)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon