يصيب كتاب جلال أمين المعنون بـ"فلسفة علم الاقتصاد، بحث في تحيزات الاقتصاديين وفي الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد" دارس الاقتصاد والمهتم به بأزمة علمية معرفية، وصدمة كبيرة لاكتشافه بأنه أمضى سني عمره يتناول الآيدولوجيا مغلفة بغلاف علم الاقتصاد، ذلك العلم الذي لم تكن طروحاته، وخطاباته، ونظرياته الكبرى إلا نوعاً من العملة الفكرية المقبولة التداول اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً في لحظة تاريخية معينة، روج لها بشكل جيد فأدت دورها الوظيفي،
ثم ظهرت غيرها لتلعب الدور ذاته بقالب مختلف، وبنية جديدة، وهو ما يتكرر منذ أربعة قرون حتى يومنا هذا، لدرجة أن الاقتصاد لم يكن يوماً علماً مبني على أسس علمية مثل العلوم الأخرى، بقدر ما كان مجموعة من التحيزات الفكرية والآراء الشخصية تجاه قضايا اجتماعية معقدة ومربكة ومتغيرة.
بعد أن يتصدى ومنذ بداية كتابه لأسباب ودوافع ومصادر التحيز العلمي بشكل عام وكيف يؤثر ذلك التحيز على البحث العلمي الرصين، يعتقد جلال أمين أن الاقتصاديين، وأينما كانوا طبعاً، ليسو في النهاية سوى بشر يتأثرون بأفكار مسبقة، ومشاعر دفينة، ولهم مصالح مختلفة ومتقاطعة مع المجتمع، وبالتالي فإن الانحياز والابتعاد عن العلمية في طرح القضايا الاقتصادية ليس بعيداً عنهم، كما أن الاقتصاديون "وثنيون" لأن لديهم ميلاً للتعبير عن الأفكار المجردة وكأنها أشياء محسوسة، مثل مفاهيم النمو، والتوازن، وصرع الطبقات، وجهاز الثمن، وغيرها من المجردات الاجتماعية الأخرى، والأكثر من ذلك فقد ابتدع الفكر الاقتصادي نماذج لقياس تلك المجردات وتصارع حول دقتها، وقوة برهانها وتحليلها لا بل إن بعضهم قدسها.
ينتقد ويفند الاقتصادي جلال أمين في كتابه "فلسفة علم الاقتصاد" كل الأسس والمعطيات غير العلمية التي قامت عليها النظريات الاقتصادية الأساسية والأم في علم الاقتصاد، مثل نظريات الإنتاج، والاستهلاك، والأسعار، والسكان، والتجارة الدولية، والتنمية الاقتصادية، والملكية الخاصة، وتوزيع الدخل في النظامين الرأسمالي والاشتراكي، مؤكداً أن هناك بعض تلك النظريات قامت على بدهيات إنسانية معروفة ومدركة مسبقاً لكن جل ما قامت به هو أنها صاغتها بطريقة منطقية ومنهجية وبلغة رياضية سهلت التعاطي معها أكثر دون أن تقدم ضمنها معرفة جديدة أبداً، إذ أنها حلت مشكلة ما هو محلول ولكن بطريقة أكثر أناقة وبراعة ودقة، ذلك بعد أن يغوص في تفاصيل تلك النظريات ويستكشفها.
والأخطر من ذلك فإن علم الاقتصاد من وجهة نظر الكتاب يحتوي على كثير من المقولات التي لا تكتسب مكانتها من دقة أو صحة وصفها للواقع، أو من اكتشافها لشيء لم يكن معروفاً من قبل، بقدر ما تكتسبها من مجاراتها لبعض الأهواء والمصالح القوية التي لا علاقة لها بالعلم، وتحديداً مصالح الطبقات الحاكمة والمسيطرة اقتصادياً، كما أن معظم تلك المقولات تنطلق من عموميات ومقولات غامضة أو غير منطقية، أو أنها تعمم النتائج التي توصلت إليها وكأنها مسلمات لا تقبل البرهان، صالحة لكل زمان ومكان، وعند هذه النقطة تحديداً يستشهد جلال أمين بـ"إيريك فروم" بالقول: إن الأفكار المسبقة واعتناق آيديولوجيا واتخاذها كمسلمات لا تقبل المناقشة، تقوم لدى الإنسان مقام الغريزة عند الحيوان، فتوجه السلوك الإنساني، وتعفيه من الحاجة عند اتخاذ كل قرار إلى أن يعيد التفكير للوصول إلى القرار الصحيح.
ويكشف الكتاب أن مشكلة اقتصادية واحدة كمشكلة السعر أو الأجر مثلاً يتغير تحليلها والدفاع عنها بين مرحلة تاريخية وأخرى، وبين اقتصادي وآخر، ومن ثم تظهر لها مدارس وأتباع وكتب ومؤلفات لدحضها أو تأيدها، لتقنعك كلها بأنها الحقيقية العلمية الصرفة، كما أن الفكرة التي كانت ترفض في حقبة معينة باتت هي الفكرة الوضاءة في حقبة أخرى لا بل عن بعضها احتل مركزية علمية في الفكر الاقتصادي، وهو ما يدل من وجهة نظر جلال أمين على البنيان العلمي الهش لعلم الاقتصاد، إذ كيف تُقبل، وترفض، وتختفي، وتظهر الفكرة ذاتها بشكل متكرر خلال عقود متعاقبة؟ لتجد نفسك في النهاية صريع التناقض والتضاد الفكري، لا بل الأكثر دهشة من ذلك أن تلك المشكلات ذاتها لم تحل وما زلت موضع نقاش.
يسمح كتاب "فلسفة علم الاقتصاد" بتجاوز حدود المسلمات الاقتصادية الأكاديمية التي يدرسها الاقتصاديون باستمرار ويدافعون عن صحتها، ويتيح فرصة جديدة لهم بالنظر إليها من زاوية أخرى قد يتفقون أو يختلفون معها تبعاً لمشاربهم الفكرية، كما يتيح بالوقت ذاته لدارس علم الاقتصاد بالإطلاع على نظرة نقدية تحليلية جدية لجوهر النظريات الاقتصادية من أجل إعادة بناء تصور أكثر منطقية حولها وكله على يد كاتب مازال منذ عام 1966 وحتى الآن ينتج للفكر الإنساني وللمكتبة العربية، إذ أنتج ما مجموعه 33 كتاباً بالعربية، و 9 كتب بالإنكليزية، مضافاً إليها 4 كتب مترجمة تناولت الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الإشكالية العربية والدولية والمصرية.
بقي أن نذكر أن الكتاب يتألف من مقدمة و 13 فصل يعالج كل فصل منها تحيزات إحدى النظريات الأساسية في علم الاقتصاد، كما صدر منه طبعتين عن دار الشروق المصرية خلال عامي 2008/2009، ويبلغ عدد صفحاته 292 صفحة من القطع الكبير.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon