كانت أم طعّان ترمقني باستهجان من خلف مناديلها السود وأنا على قوس المحكمة تغرس عينيها في وجهي وتدوّرهما بحثاً عن من هو أكثر إقناعاً.. وقد حضرت لتدافع عن ابنها الذي غسل عاره بدم شقيقته. بعد الإستجواب سألتها."ألستِ حزينة على ابنتك الذبيحة؟"
نهَرتْ ألماً أطلّ من عينيها: "لا". قلت: قد نحكم على ابنك بسبع سنوات سجناً! رفعتْ كفّين مخضّبَين بحنّاء دامية تداخلت مع وشم بدوي عميق الجذور وقالت: "بظنّي ما تعرفين.. شهرين.. ثلاثة ويطلع مرفوع الراس"! قلت: "لقد تغيرت القوانين". قالت: "إحنا عشاير، بلا قوانين بلا سواليف فاضية، وين القاضي؟" قلتُ: "أنا القاضي" فصعقَتْها الدهشة: "آ.. ويلي يا بوي.. يا وَلْ حْريْمة جَعْدْ تشرَع وتحكمْ بْخَلْقَ الله.. وين صار هيج؟ "قلت: "الزمن تغيّر"!
وكنت سأحكي لها كيف أني لم أعتلِ قوس المحكمة إلاّ بعد أن خضتُ مخاضات الجمر، وظلمة الليل، وكان زيتُ قنديلي دمي. شققتُ دروباً، تصلّبتْ قامتي فوق شوكها وحفرها حتى أنجزتُ لياقة الخطوة، ولم أكن وحدي،لقد كان معي سُمْر السواعد،يسكبون على وجعي جرعة الأمل، أرنو إلى عيونهم المتطلّعة إلى الشمس والحرية تسند خطوتي وتمدّني بالصبر لمتابعة المسير. فلا أعبأ كثيراً بالشوك بل كنت أنسى جراحي حين تتشابك أيدينا وأرى الفضاءات تفتح لي ذراعيها.. وتابعت صعودي وصخرتي على كتفي، كبرتُ في براري الحلم، فرقصت خضرة السفوح على عزف المواسم الآتية محمّلة بالزهر والغلال وضوء الرجاء يبشّر بأفول الظلام.. كبرتْ بيادري وامتلأتْ دناني، وارتشفْتُ مع ثرى وطني طعم الحق المعطّر بالعطاء، وحلّقت في سماء وارفة بالحب والبذل، وأنا أتقن يوماً بعد يومٍ فنّ صنع المستقبل والإنسانٍ، ولم أعد فريسة سهلة للتهديد والإهانة، فلا قيان ولا إقطاع والأرض لمن يعمل بها، ولا عامل مهدّد بالتسريح والموت جوعاً وبرداً، والمعمل تحميه قوانين تحاول النضوج رغم العثرات. وطفل آمِنٌ، ومدرسة مضاءة بالحب والعلم، التعليم (الجامعي) شبه مجاني للجميع، سعي باتجاه عدالة التوزيع، وقطاع عام يبثّ بعض الأمان، ومنظمات شعبية تتدرب على تمكين قرارها، وسوق منضبطة برعاية الأب المسؤول العادل يرعى أبناءه ولا يدعهم لرحمة الغرباء واللصوص ومصّاصي الدماءٍ، ورغم العثرات والنكسات، والمسافة البعيدة بين الحلم والواقع، ورغم التخلّي المعلن والخفي عن كل ما سبق، بقي الإيمان بأن الطريق صاعدة بحسب منطق التاريخ.
ولكن أم طعّان لم تمهلْني، بل خرجت ساخطة تجرّها أعنّة الظلام.. وفي ليلة لا قمر فيها، وبعد طول انتظار، وصلَنا مشروع قانون الأحوال الشخصية (الوصمة).. الذي أُوقِفَ العمل به ولم يُلغَ، بل ما تزال تفوح من بين سطوره روائح عفونة سامة تتربّص فرصة التحوّل إلى أمر واقع.. قرأناه أنا وزميلاتي وبعض الزملاء ونحن من طوائف مختلفة،وظنّنا أنه مزحة سمجة! أحسسْنا بالعار والمهانة، وتلوّثتْ عيوننا بمفردات منافية لأخلاق الإنسان وكرامته ومجافية حق المواطنة وروح العصر: (الموطوءة،والذمّية..)وأذهلتْنا صفاقة من اشترعه،ولم نعرف متى، وكيف، وأين، ومن تجرّأ وصاغه؟! تنصّل الجميع! إذنْ هو الشيطان ذو الأيدي الخفية؟ أم علينا أن نؤمن بالجن؟! أم تراها أم طعّان وطعّان وأبو طعّان وشيخ قبيلة الطعاينة المطعون في أهليتهم الإنسانية هم من طعنوا بكل القوانين السابقة، القاصرة أصلاً؟ يعاونهم طابور يتغلغل بخبث في نسغ ما زرعناه وسقيناه عرقاً ودماً وتضحيات؟ وقد يهبّ إعصاره ليقلع بهمجيته ما لم يكتمل جناه بعد، ولا يبقي من الوطن الذي نرسمه بريشة الحلم غير ساحة لسوق النخاسة مقفرة إلاّ من النخّاس، وحامل السوط، والمطوّع، والسيف الذي لايردّ عن وطني عدواناً، بل يسلّط على رأسي إذا فكّرت في رفعه..
استيقظتُ، على كابوس إذ وجدْتُني وقد تقمّصتني تلك المرأة الأفغانية التي أقيمَ عليها الحد، من قِبَلِ محكمة طالبانية في الساحة العامة أمام أعين القرن الحادي والعشرين وهي مسربلة بجرحها، لا تظهر منها ولا حتى عينٌ تشيّع بها مكاناً يفترسه زمان هابط، قبل أن يتدحرج رأسها على مهاوي سلّم القيم المتّجه عكساً.
أصوات خارجة من عفونة الكهوف، أسمعها، كعزيف الشياطين، أحسّ فحيحها، تتسلّل من تحت أقدامي،تلتفّ على أنفاسي، تتلطّى تحت وسادتي،رائحة احتيال واحتراق، واغتيال عرق ودماء وأحلام أجيال، تنتشر كغيم سامّ على شكل قوانين: أحوال شخصية، تحرير الأسعار، رفع سقف الملكية الزراعية، خصخصة القطاع العام، قانون العمل،قانون التأمينات الاجتماعية، تقليص دور الدولة الرعائي الاقتصادي، مصادرة حقوق المنظمات الشعبية في القيام بدورها المطلوب.
كيف أقف على أرضٍ ومن تحتي القوارض والأفاعي تقرض سجادة زهر نسجتها عبر أجيال، أتعلّق بأنشوطتي وأتأرجح فوق المساحة التي ما فتئتْ تضيق ما بين هاويتين،وأحرس ما تبقّى، ولن أسمح لقوانين طالبان، ولا لأفاعي أم طعان أن تتسلّل إلى سرير أولادي..
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon