جدل السياسي والمدني في التجربة المدنية السورية.. مبادرة هامة في قراءة المجتمع المدني السوري

ليست تجربته الأولى في البحث داخل المجتمع المدني السورية، بل له تجارب سابقة بعضها لم يظهر إلى النور بعد. الزميل وائل السواح، يقدم في مقالته البحثية الجديدة "جدل السياسي والمدني في التجربة المدنية السورية" قراءة بالغة الأهمية للعمل المدني في سورية، وبشكل خاص للعلاقة الملتبسة دائما ما بين السياسي والمدني، ولدور العناصر المختلفة في الواقع السيء للعمل المدني اليوم.

وائل السواحبعد استعراض تاريخي للعمل المدني السوري، ركز الباحث السواح على التغيرات العالمية والإقليمية والمحلية منذ بداية التسعينيات، ودورها في صعود العمل المدني. ومن ثم يستعرض تجارب محددة مثل تجربة لجان إحياء المجتمع المدني، ومنتدى الحوار الديمقراطي، ومنتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي... ويطرح اسئلة جوهرية حول هذه المرحلة يمكن القول أن محورها هو: "هل كان من الممكن أن لا يواجه ربيع دمشق المصير الذي آل أليه؟ هل كان من الممكن تجاوز حالة الاستعصاء هذه؟".

وفي إجابته عليها يقول: "نظريا، نعم. يعتقد بعض المثقفين السوريين أن حركة المجتمع المدني.... أخطأت عندما خلطت بين مهامها كحركة مدنية وبين مهامة سياسية كان على عاتق السياسيين والأحزاب السياسية الاضطلاع بها. وأنه كان من واجبها الانتباه أكثر إلى دورها كأداة مجتمعية مهمتها التركيز عل قضايا الثقافة والفكر والتنمية والتدريب والتأهيل والتعبئة وترويج مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. وتعتقد وجهة النظر هذه أن حظ المجتمع المدني بالنمو والبقاء كان أكبر بكثير لو أنه، لم يحمل مهام الأحزاب السياسية ولم يطرح برامج سياسية في التصدي للحكومة، كما يقول أحد مؤسسي حركة المجتمع المدني في سورية".

ويشير إلى وجهة نظر أخرى تقول "أن ذلك لم يكن خطأ. ولكن الخطأ بالنسبة إليهم قصر المجتمع المدني واختزاله في مجموعة من المنظمات غير الحكومية التي تأسست حديثا في سياق العولمة، والتي تنشط وفق رؤية عالمية للمنظمات غير الحكومية المتمركزة في الغرب أساسا. على العكس من ذلك، فالمجتمع المدني هو نسيج متشابك من العلاقات التي تقوم بين أفراده من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى. ولئن كان البنك الدولي ومعه أنظمة النيو-ليبرالية في الغرب تريد من المجتمع المدني أن يلعب أساسا دورا تنمويا واقتصاديا، ليريح الحكومة من هذا العبء الاجتماعي، فإن رؤية البعض الآخر أن المجتمع المدني هو حركة المجتمع الاجتماعية والثقافية والتنموية التي تقع في الحيز الفعال بين الدولة من جهة والأسرة من جهة أخرى، وهو يقوم بهذا النشاط بمعزل عن الدولة ولكن ليس في مواجهتها".

ومن ثم يستعرض الزميل وائل السواح تجارب "جيل جديد من ناشطي المجتمع المدني الذين ليس لهم بالضرورة تاريخ سياسي معارض أو موال، قاموا بسلسلة من النشاطات الأهلية التي اتخذت طابعا اجتماعيا واقتصاديا". ويضع بداية لها بـ"الحملة الوطنية لوقف جرائم الشرف"، التي أطلقها مرصد نساء سورية، وشاركت فيها العديد من المنظمات والجهات المختلفة ورجال دين ومثقفون/ات وناشطون/ات.

كذلك يستعرض في هذا السياق الحملة التي هدفت إلى إلغاء مسودة قانون الأحوال الشخصية. التي استخدمت كافة الأدوات المتاحة من إعلام تقليدي إلى المدونات والرسائل القصيرة وموقع فيس بوك وغيره.. كما استعرض تجارب أخرى في ذات السياق المجتمعي.

ورأي الزميل السواح أن الحملات المذكورة اتستمت بسمات مشتركة منها أنها "غير سياسية ولا مسيسة، وأنها شملت عناصر من مختلف فئات المجتمع السوري، وأنها اعتمدت على الوسائط الجديدة في التواصل..".

كما خلص المقالة إلى خاتمة أكدت أن النضال السياسي هو ضرورية، وأن النضال المدني والأهلي هو ضرورة أخرى لا تقل عن الضرورة السياسية أهمية. وأن الربط بينهما قائم لا محالة، إلا أن هذا الربط هو موضوعي لا يقتضي ولا يعني تداخلا بين النشاطين. فلكل من السياسي والمدني مجاله الخاص وأدواته الخاصة.

كان ذلك استعراضا سريعا لما تضمنته المقالة البحثية للزميل وائل.

قلنا في بداية هذا العرض أن مقالة الزميل وائل السواح تشكل قراءة تكاد تكون يتيمة لهذا الموضوع الهام في سورية. وهي قد غاصت بعيدا بجد وجهد واضحين في محاولة قراءة العلاقة الملتبسة فعلا ما بين السياسي والمدني، ليس من الناحية الموضوعية فحسب، بل من الناحية النظرية أيضا.

إلا أن ما نود التعقيب عليه هو بضعة نقاط لا تقلل من أهمية هذا العمل الهام:
- ربما احتاجت المقالة إلى أن تعطي المزيد من الجهد للمقارنة بين المدني والسياسي من حيث التجربة الواقعية: التكوين، الأهداف، والآليات. وخاصة على ضوء التجارب الواقعية. فقد بقي جزء من السؤال معلقا دون بحث: لماذا نجح المجتمع المدني في التحرك حين تخلص من وطأة السيطرة السياسية؟ هل الأمر يعود فقط إلى أن أدواته كانت أكثر "حداثية" (انترنت، رسائل جوال.. الخ)؟ هل هناك دور للأهداف المختلفة؟ هل هناك دور لفصل الأهداف بعضها عن بعض؟ هل كان لتجزئة العمل وإلغاء مبدأ الأولويات دورا ما في إعادة الحياة إلى جميع القضايا المهملة، وبالتالي في تغيير طيف الفئات المعنية بهذا النشاط أو ذاك؟ وهل..

- أيضا ربما كان لمحاولة الخوض، وإن جزئيا، في اخلافات المنظمات المدنية في سورية دورا هاما في توضيح بعض الجديد في العمل المدني. لكن فضل الزميل السواح أن يجمل المنظمات كلها في سياق واحد، فيما أن هذا السياق يتضمن آليات عمل مختلفة وتصل أحيانا إلى حد التفارق. وبغض النظر عن أهمية هذه التجربة أو تلك، فربما كان لهذا التفارق نفسه، المذموم غالبا، دورا حيويا واساسيا في تطوير العمل المدني نفسه، وربما تشكل بعض عناصره محاور اساسية في افتراق المدني عن السياسي. وبرأينا أن بعض هذه التجارب أسست لفهم جديد للعمل المدني نفسه، خاصة فيما يتعلق بإعادة الحق للقضايا المجتمعية أن تحتل مكان الصدارة، وأن تلقى الاهتمام اللازم فيها بعيدا عن "قدسية الأولويات" التي غلفت العمل السياسي السوري لأكثر من قرن، ماحية في طريقها كل تمايز، وكل إمكانية للعمل خارج إطارة "البؤرة السياسية".

- ونود أن نعيد هنا دعوتنا القديمة إلى أي من الزملاء والزميلات ممن يرغب في قراءة تجربتنا الخاصة في مرصد نساء سورية، ودورها في العمل المدني السوري، باستعدادنا التام للتعاون من أجل إنجاز ذلك، متضمنا تقديم أية معلومات مطلوبة، وأية حوارات أو نقاشات متعلقة.

- النقطة الأخيرة التي سنشير إليها، هي أن الزميل وائل، فيما يبدو لنا، قد عاد في خاتمة مقالته إلى نقطة قريبة مما عمل المقال كله على الفصل فيه. فقد خلص إلى القول: "مهمة المجتمع المدني الدفاع عن قضايا هي في الصلب سياسية مثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان، ولكن بوسائله المدنية غير السياسية".
في الواقع نحن نختلف كليا مع هذه المقولة. فاعتبار قضايا العمل المدني "هي في الصلب سياسية"، هو أمر يعيد كل شيء، مرة أخرى إلى السياسة. إلا أن السياسة ليست إلا جزءا واحدا من الحياة. وربما يصلح هنا استعادة أبسط تعاريف السياسة وأكثرها قربا من الواقع وهو "فن إدارة الدول".
وإذا كانت الديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان هي قضايا اعتدنا على وضعها تحت بند "المهام السياسية"، وذلك بسبب من غلبة التفكير "الغيبي" السياسي الذي يجعل (في هذه المنطقة من العالم) من السياسة مفتاحا سحريا لكل تفاصيل الحياة، وهو ما ثبت خطؤه بالمطلق في كافة التجارب الحديثة، فإن هذه القضايا هي قضايا مجتمعية مدنية بامتياز أيضا. وبالتالي فإن الديمقراطية لا تعني فقط تداول السلطة وآليات الحكم، وعلاقات السلطات الأربع، كما هو عليه الحال في السياسة، بل أيضا تعني علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المؤسسة بالعاملين/ات فيها، وعلاقة رجل الدين بمريديه ورواده، وعلاقة منظمات المجتمع المدني الداخلية ومع مفاهيم مثل الشفافية والعلنية... وإذا كانت حقوق الإنسان تتضمن حكما ما يتعلق بحقوق المعتقلين بدءا من أسباب اعتقالهم وانتهاء بظروف محاكمتهم، فإن حقوق الإنسان أيضا تتضمن حكما، وبمستوى مستقل كليا، المساواة في الواجبات والحقوق بين المرأة والرجل، والحقوق الكاملة للطفل...
ويثبت هذا الأمر، إضافة إلى اعتبارات مختلفة أخرى، واقع أن القوى السياسية جميعها، في سورية كما في المنطقة، لا تتخذ مواقفا منسجمة بين طروحاتها السياسية المتشابهة، وبين الطروحات المتعلقة ببعض قضايا المجتمع المدني مثل حقوق المرأة. بل حتى داخل المؤسسة السياسية الواحدة يصل اختلاف المواقف أحيانا، من هذه القضايا، إلى حد التناقض الصارخ والصريح.
وبالتالي فإننا نقول أن مهام المجتمع المدني ليست "هي في الصلب سياسية"، بل إن بعض مهام المجتمع المدني تتقاطع مع المهام السياسية، ليس إلا. وللمجتمع المدني، سواء من حيث المهام، أو جهات العمل، أو الآليات والوسائل، كيانها المستقل كليا عن "المجتمع السياسي". وبالطبع يمكن لتحقيق تقدم على أحد المستوين أن يخدم المستوى الآخر. لكن أيضا يمكن لتقدم آخر أن يعيق بل ويناقض المستوى الآخر. فليسوا قلة، على سبيل المثال، من يتحدثون اليوم بالديمقراطية في المستوى السياسي، ويعبرون علنا عن تأييدهم لعودة النساء إلى البيت جاريات في بيوت أبائهن وأزواجهن. وليسوا قلة من يؤيدون تقدما هاما على صعيد مساواة المرأة والرجل ويؤيدون في الوقت نفسه أساليب حكم لا ديمقراطية. كما أن أنظمة حكم ديكتاتورية استطاعت أن تحقق تقدما هاما في بعض قضايا المجتمع المدني، فيما فشلت في ذلك أنظمة حكم ديمقراطية أو أقل ديكتاتورية.
والأمر نفسه نراه في أنظمة حكم حققت مستويات متقدمة جدا من الديمقراطية على المستوى السياسي، فيما هي تقف عقبة كأداء في وجه التقدم في بعض قضايا المجتمع المدني، كالبيئة مثلا.
وهذا ليس بتناقض لدى هؤلاء، بل هو نابع برأينا من واقع انفصال المستويين الكبير بعضهما عن بعض، وواقع أن التشارك والتشابك بينهما هو نتيجة موضوعية في بعض الجوانب وحسب.

*- النص الكامل لمقالة الزميل وائل سواح على موقع "مبادرة الإصلاح العربي"، للاطلاع يرجى النقر هنا..


بسام القاضي، (جدل السياسي والمدني في التجربة المدنية السورية.. مبادرة هامة في قراءة المجتمع المدني السوري)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon