دموع الضياع

انطوت الأيام على بعضها وتراكمت السنون كغبار أسود في نفسها.. ولم تزل في مكانها.. واليوم اقتطعت ورقة الروزنامة التي تبشرها بمرور سبعة وخمسين عاما على ولادتها!

يا إلهي كم مضى من الوقت وهي لا تزال هنا كعامود من أعمدة هذا البيت العتيق!
تلك الورقة هي السبب في إعادة إحياء ما تود نسيانه!!!
أعادتها للأيام الخوالي التي غادرتها منذ زمن عندما كانت تحلم باليوم الذي ستدخل به إلى الجامعة وتدرس الأدب العربي ويسطع اسمها في سماء الراويات المتميزات واليوم الذي ستحب فيه وتتزوج وتلد طفلا و.. و....
لكن رفض والدها قطع سلسلة تلك الأيام وأقف لديها وريقات الروزنامة وربما عقارب الساعة
فضريبة الأخت الكبرى كان لابد من دفعها وتحمل مسؤولية تربية الإخوة الصغار مع والدتها فرض عليها فتنازلت عن الدراسة لتجنب الأعباء المادية وتغض الطرف عن الطموح لضيق الوقت وترفض الزواج لمرض والديها وتتخلى فيما بعد عن نفسها لتزوج إخوتها
ضاقت ذرعا بتلك الذاكرة المؤلمة فمزقت تلك الورقة اللعينة ورمتها في سلة المهملات بعد أن عكرت لها مزاجها منذ الصباح فلم يعد احتساء فنجان القهوة يستطيع أن يمحي بصمة العنوسة في نفسها.
كابرت وتابعت روتين حياتها اليومي الممل أعدت الفطور ونظفت البيت ونشرت الغسيل وسقت الياسمينة الهرمة التي تتوسط أرض الدار ثم بدأت مشوارها اليومي بإفضاء شوائب نفسها وعقدها بسلبية على من حولها تناولت سماعة الهاتف علها تجد خبر أو سيرة تناقشها بحثا عن شخصيتها المصادرة من وقت بعيد.

أجل لقد قالت عنك ذلك لكن لا تقولي أني أخبرتك
يا لطيف فعلتها قلت لك من البداية أن تحذري منها
ألم تعلمي؟ لكنه قال لي ألا أخبر أحد أنت الوحيدة التي أعلمتها
لو لم أحبك لما أخبرتك
والآن أريد أن أنهي المكالمة لكي أطبخ
بعد أن أعدت غدائها جلست لتأكل وحيدة تؤنسها تلك الجدران الصامتة والكراسي الهاربة من ذاك الزمن الجميل.
وبعد أذان العصر قامت لتنظف أرض الدار من دموع تلك الياسمينة التي تذرفها كل يوم على رحيل من كانوا حولها.
تشطف وهي ترثي الحياة التي كانت في هذا المنزل فتذكرت من كانوا يلعبون ويشاغبون وتصرخ فيحم وترشحهم بهذا الخرطوم وتسمع صوت أمها الذي يحثها على الانتهاء سريعا قبل موعد قدوم جمعية النساء وتخفض صوتها بالحديث لكي لا تزعج قيلولة والدها
ويتلاشى سراب رؤياها عندما يقرع جرس الباب ويتوافد الزوار لا أحد غريب إخوتها وأخواتها وأولاد كل منهم فتخلط مشاعرها بين الفرح على ذهاب وحشتها وقدوم من يؤنسها والتأفف من ما ستلاقيه من ضجة ومشاحنة لم تعتد عليها من الأولاد بعد كبر سنها فترسم البسمة على وجهها عنوة وتمضي لاستقبالهم.
وعندما يعزم الجميع على الرحيل كل واحدة تهتف لزوجها ليأخذها وكل واحد يومي لزوجته بالتجهز للرحيل يعصر قلبها وتغرغر الدمعة في عينيها لأنها ستعود للوحدة والظلمة والوحشة الجبن الذي يسيطر عليها في عتمة ذاك الليل الطويل وستأوي لغرفتها وفراشها وذكرياتها وتعود لتطوي صفحة من رزنامتها وتلتقط ورقتها السوداء التي مزقتها في الصباح لتذرف فوقها دموع الضياع.


 خلود حدق، (دموع الضياع)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon