بيانكا ماضية: في الكتابة أحلم بسلام جميل

بيانكا ماضية أديبة سورية تكتب القصة القصيرة والخاطرة وقصيدة النثر والمقالة الصحفية والدراسات النقدية ولها اهتمامات لغوية التقيناها في مدينة حلب الشهباء فكان هذا الحوار:

1 ـ لنبدأ من البداية... من هي بيانكا ماضية؟
- لا أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال الذي يتناول إنسانة في داخلي، فمهما غصت في هذا الداخل لا أستطيع أن أمسك بمعالم بيانكا ماضيةهذه الشخصية التي أراها تتواضع أمام هذا السؤال.... وقد يجيب عن سؤالك شخص آخر يعرف حقاً من هي بيانكا ماضيّة، لأنني ربما أحذف صفة أو صفات أمتلكها أجد أنني لم أبلغ أمداءها، فمهما سعى المرء إلى صقل شخصيته وتشذيبها، وتطويرها ورقيها تبقى هناك حدود لايمكنه بلوغها...
باختصار شديد بيانكا أديبة جعلت من الحرف كينونتها، ومن اللغة أسلوبها، ومن الخيال فضاء لحاجات نفسها، هي إنسانة متواضعة صادقة مع نفسها ومع الآخرين، تجد في الأدب ملاذها وفي الكتابة مجالاً واسعاً للإبحار والغوص في مكنونات النفس البشرية، ولصياغة عالم جميل نقي لايتحقق إلا على صفحات الورق...إلا في سطور القصائد وصورها، في بحور الكلمات التي أحلم من خلال أنوار لآلئها بسلام جميل يتغلغل إلى مساماتي فيمنحني بعضاً من الطمأنينة، لذلك أمسك بتلابيب هذا الحلم لأجسده حقيقة في كتاباتي، وهل أروع من تحقيق ذاك الحلم؟!
بيانكا إنسانة مرهفة الأحاسيس تنظر إلى العالم وإلى الوجود نظرة خاصة نابعة من قلبها المفعم بالحب إلى هذا الجمال المتغلغل في جزئيات هذا الكون، ولَكَمْ يقتلها زيف العلاقات الاجتماعية، والتملق والمحاباة والغش والكذب وكل مايغذي الشر في النفس الإنسانية، ويبعدها عن الجانب النقي فيها، كل هذا وأكثر هو بيانكا ماضيّة.

2 ـ ما هي المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي ساهمت في تكوينك الأدبي وبمن تأثرت؟ وما هي قصة أول عمل إبداعي لك؟
- كانت البداية الأدبية بالنسبة لي عندما كنت في مرحلة اليفاعة، وبالتحديد عندما كنت في زيارة إلى قريتنا (القنيّة) الواقعة في الشمال السوري، ففي منزل جدي في تلك القرية غرفة تحتوي على خزانة خشبية تقع في الجدار، هذه الخزانة كنت أعلم أنها تحتوي كتب أبي ودفاتره والقصص والمجلات التي كان يقرؤها، فأحببت أن ألج هذا العالم الذي ظل لفترة طويلة موصود الأبواب دوني لصغر سني، فتحت الخزانة وأطل عليّ كتاب (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران، وديوان (طفولة نهد) لنزار قباني، و(العبرات) للمنفلوطي، و(عشاق فينيسيا) أو (جسر التنهدات) لميشيل زيفاكو، تلك القصة التي اختار أبي منها اسمي، إذ كانت (بيانكا) إحدى بطلاتها، بالإضافة إلى مجموعة رسائل عاطفية كتبها أبي لأمي في مرحلة خطوبتهما، ودفتر (أوتوغراف) فيه كلمات جميلة لأصدقاء أبي، وكانت من بين تلك الكلمات حروف وجمل أدبية جميلة أدهشتني بأسلوبها المبدع وصورها الشاعرية وكانت بخط الأديبة الحلبية الشاعرة ليلى مقدسي....
قرأت تلك الرسائل وشعرت في نفسي ببذرة أدبية تنتشي.. وفي اليوم التالي وحينما كنت أجلس على حافة الدرج المطل على مساحة خضراء من قريتنا، وفي ساعة مبكرة من الصباح، راحت الكلمات والصور تعتمل في ذهني، فأحضرت قلماً وورقة وكتبت أول نص نثري لي تحتوي أسطره على جمال ذاك الفضاء الذي حامت فيه روحي وانطلقت متنقلة بين الأشجار مع زقزقة العصافير ومع إشراقة أول خط من خطوط الفجر المشرق آنذاك..

3 ـ أنت صحفية بالأساس وتكتبين القصة القصيرة والشعر وتمارسين النقد الأدبي. فهل الموضوع هو الذي يحدد الجنس الأدبي أم العكس؟
- أنا لست صحفية بالأساس وإنما الأساس كان في كتابة النقد والشعر، وامتهنت العمل الصحفي فيما بعد إبحاري في عالم الشعر والكلمة، أما عن الجنس الأدبي الذي أفرغ فيه كلماتي وصوري وأفكاري، فهو الذي يختار نفسه منذ بداية توهج الحروف في ذهني، فأنا لا أقول لنفسي سأكتب قصيدة نثرية، أو سأكتب قصة، أو سأكتب خاطرة نثرية، وإنما توالي الأفكار والصور هو الذي يحدد لنفسه الجنس الأدبي، فحينما تنطلق المخيلة لتختار مايناسبها من جمل ومفردات تدق باب الذاكرة فتفتح لها هذه الأخيرة الباب مستقبلة إياها بكم من الصور والمواقف وتأتي الأحاسيس والمشاعر لتواكبها في زيارتها، هذا الزمن المقدس الذي ينتابني فجأة يجعلني أمارس طقوسه بكل ما أملك من لغة وفكر ومشاعر، يجعلني أبسط له رياحين الرؤى وزهور الفكر، يجعلني أفتح أبواب عالم في داخلي لأنتقي منه وأستقصي مايمكنني استقصاؤه..

4- كيف تتخلصين من شخصية الناقد عندما تكتبين إبداعاً؟
- حين أكتب إبداعاً لاشيء يفرض علي شروطه وأحكامه، فالإبداع لايكون إبداعاً إن احتكم لقاعدة أو أحكام أو شروط، الإبداع يأتي دفقة شعورية لاشأن للنقد بها، أما النقد الذي أمارسه على النص بعد الانتهاء من كتابته فهو نقد اللغة والأسلوب، إذ أغير وأبدل في المفردات التي أراها تناسب الفكرة المطروحة أكثر، وفي صياغة بعض الجمل حتى أراها كما في نفسي، وسأبوح لك بأمر وهو أنني نادراً ما أبدل في المفردات، لأنني أحب أن يبقى النص مثلما دونته أصابعي للمرة الأولى، إذ أجد متعة ولذة حين أعود إلى ذاك النص بعد فترات بعيدة لأمسك بلحظات البوح الأولى التي جعلتني أرسم حروفه..

5 ـ متى تكتبين وهل لك عادات وطقوس خاصة عند الكتابة؟
- أظن أن لكل كاتب طقساً خاصاً به حين الكتابة، وزمناً معيناً يجد فيه خلوة جميلة مع النفس، وأنا أجد الليل زمناً مناسباً لكتابتي، فجل ما كتبته كان الليل رفيقاً له، في الليل يمضي الكاتب في أجواء ساحرة قد لايتيح صخب النهار الإمساك بها والعيش دقائقها وجزئياتها، الليل عالم جميل وساحر للذين يشعرون بمتعة الغوص في أجوائه وظلاله... أما عن طقوسي الخاصة حين الكتابة فتكمن في فنجان القهوة الذي أعود لأملأه كلما وصلت إلى قاعه، وفي لهيب ودخان تلك السيجارة التي لا تفارقني، وإلى الآن لم أدرك ما الذي تفعله القهوة والسيجارة في نفوس المبدعين، ولعله ليس طقساً بل حالة شعورية يغوصون في تفاصيلها وهم يدونون حروفهم وأفكارهم ورؤاهم...

6 ـ ماذا تعني لك الكتابة ولماذا تكتبين؟
- الكتابة هي التي تجعلني أرمي مافي داخلي من أوجاع وأحزان وأفراح وأحلام، أبحث من خلالها عن البديل الذي يخفف عني آلامي، وعن الصديق الذي ينصت إلى جرس حروفي، من خلالها أستحم بماء الكلمات لتتطهر روحي من لوث الزمن، من تراكم صدئه في زواياها وحناياها، إليها ألتجئ لأفضي إليها بمشكلاتي، علها تجد لي حلولاً لغصاتي التي تتحشرج في حلقي، هي المتعة التي ألهث وراءها باحثة من خلالها عن خلودي، عن تجلي روحي ونفسي في أسطر أمتلك زمام الأمور فيها، لأرسم دقائقها كحالي، فهي الثوب الذي أمسك بأطرافه لأطرزه بتواشيح أفكاري ولغتي وأسلوبي.
في الكتابة أحلم بسلام جميل يتغلغل إلى مساماتي فيمنحني بعضاً من الطمأنينة، لذلك أمسك بتلابيب ذاك الحلم لأجسده حقيقة، وهل أروع من تحقيق المرء أحلامه؟!
إن الحروف التي أصوغها معاني عديدة لما يعتمل في روحي لا أجيء بها اعتباطاً، ولا أرمي بها على أرض الورق جزافاً، هي نسق لفكري الذي أقدم من خلاله خلاصة تجاربي وقراءاتي وأفكاري.
من خلال الكتابة أصعد سلالم النفس لأصل إلى راحتي، وفي هذه الأجواء المليئة بالأحلام يضج المكان بروحي وبفكري وبأضواء أحلامي، فتصبح الحروف نهارات ليس فيها مكان للعتمة، وقد أتساءل وأنا أمارس طقس الكتابة: لم كل هذه الضوضاء في نفسي؟! فأشياء كثيرة تعتمل في داخلي، تبدي جنونها في أشد اللحظات سكينة وهدوءاً، فلا أدري سر هيجانها ولا أستطيع الإمساك بذيولها، إلا بالكتابة، فمن خلالها أفرش حروفي التي ألملمها من مائدة فكري، ثم أرتبها لتكون سبيلاً إلى فكر الآخرين، وإلى زرع المتعة في نفوسهم، محكومة أنا بهذه الكتابة وما ألذه من حكم أود لو يكون قبضة حريرية تلتف حول معصمي على الدوام فلا أنفك من أسرها.

8 ـ حسب رأيك هل مازال الأدب محافظاً على وظيفته الاجتماعية في زمن العولمة الشرسة والفضائيات والانترنت؟
- الأدب في كل الأزمنة والأمكنة يبقى عصياً على الاختراق، فلا العولمة الشرسة ولا الفضائيات ولا الانترنت تستطيع أن تسحب من تحته بساط الرفعة والسمو والعلو، فالأدب هو الذي يسمو بكل شيء، يسمو بالروح الإنسانية التي تسعى إلى الخلاص، ومن خلاله يبحث المرء عن معنى حياته، فهو الذي يصوغ أسئلة الحياة والوجود، وهو المستقبل الذي قد يأتي ولايأتي!!
الأدب هو العالم كما رآه الأدباء المبدعون، هو تجليات النفس في أروع صور لها... قد يشدك برنامجاً تبثه إحدى الفضائيات فيدخل إلى نفسك المتعة والحبور، ويجد لك حلولاً لمشكلات حياتية تعيشها، وقد يصور لك مايحصل على ساحة هذا العالم الذي تتشوه صوره، ولكن هل تستطيع أن تقارن مثلاً بين الذي تستشعره حين قراءتك روائع طاغور وبين مايجلبه لك سماعك لذاك البرنامج، أظن أن الفارق جوهري وعميق، وأن البون شاسع بين الشعورين والحالتين، اقرأ على سبيل المثال هذا المقطع مما كتبه طاغور:
(أيها النور، يانوري، أيها النور الذي يغمر الكون، أيها النور، ياقبلة العيون، أيها النور ياعذوبة القلب.. آه ياحبيبي، إن النور يرقص في مركز حياتي، إن حبي، ياحبيبي، يتجاوب، مع دفقة النور، السماوات تنفسح، والريح تهب عاتية، وعلى الأرض تعبر ضحكة... ياحبيبي، على بحر النور تبسط الفراشة جناحيها، وعلى ذرى أمواج النور يتلألأ الزنبق والياسمين.
ياحبيبي، النور يذر الذهب فوق كل غيمة، وينثر الجواهر في جود وخصب وانسابت غبطة من ورقة إلى ورقة، ياحبيبي، وامتد حبور متصل لاحد له.. إن نهر السماء قد فاض على الضفاف، وجازت موجة الفرح كلها الحفافي).
ألن تجد في هذا المقطع صدى لطيوف دانتي وليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو، صدى لعصر كانت ترقص فيه الحروف على رعشات الريشة وضربات الإزميل...
فكيف لاتكون للأدب وظيفته على مر العصور، إنه الشيء الباقي واللغز الجميل الخالد في هذه الحياة.

9 ـ أنت تنشرين إنتاجك في أكثر من موقع على الانترنت فهل هو إيمان بنهاية القارئ الورقي لصالح القارئ الرقمي؟
- أنشر نتاجي الأدبي في مواقع إلكترونية عديدة ليس إيماناً بنهاية القارئ الورقي وإنما سعياً لأن يقرأ هذا النتاج أكبر عدد من القراء، إذ أتاحت الثورة الرقمية للكتّاب قراء آخرين، قد يكونون بعيدون جداً عنهم، وأصبح ذاك النتاج في متناول كل من يبحر في الشبكة، كما أن تلك المواقع قد قدمت خدمة مجانية للكاتب في أن ينشر إبداعه أنى شاء، وبالتالي فقد أصبح له قراء عديدون في غير دولة أو قارة، وأصبح له متابعون جيدون، ونقاد أيضاً، وأصدقاء قد لايجد أمثالهم في البلد الذي يعيش فيه، وأنا لا أنكر أنني قد تعرفت إلى أدباء وكتاب ونقاد من كل دول العالم أصبحوا اليوم أصدقاء لي، فمن تونس تعرفت إليك أنت أستاذ ساسي، ومن المغرب الكاتب والمعجمي الدكتور علي القاسمي، ومن قطر الأستاذ والشاعر حسن توفيق رئيس القسم الثقافي في صحيفة الراية، ومن أمريكا الأستاذ والشاعر عادل سالم مدير موقع ديوان العرب،، ومن فلسطين الأستاذ جميل حامد المسؤول الثقافي في صحيفة الحقائق الدولية، ومن مصر كتاب وشعراء عديدين، إلى آخر ماهنالك من كتاب مبدعين أصبحوا اليوم أصدقاء حميمين لي.... لقد أتاح النشر في المواقع الإلكترونية إلى تعدد القراء، وكانت النتائج الجميلة التي حصلت عليها أنا شخصياً هي هذه الصداقات التي أعتز بها وأفخر، بالإضافة إلى التواصل الأدبي الجميل الذي يجد فيه المرء متعة لاحدود لها.

10 ـ ما هي أحلامك وأين تخومها؟
- الحلم الأول الذي أسعى اليوم إلى تحقيقه هو نيل شهادة الماجستير في الدراسات الأدبية، فقد واكبني هذا الحلم منذ عشر سنوات، وحالت ظروف عديدة دون تحقيقه أولها العمل الصحفي، أما الأحلام الأخرى فهي في متناول اليد ولكن تحتاج إلى بعض الوقت ومنها إصدار مجموعة قصصية بعنوان (رجل في الذاكرة) وكتاب آخر هو دراسة نقدية بعنوان (المدينة في شعر نزار قباني) تلك الدراسة التي نلت عليها جائزة الدكتورة سعاد الصباح للإبداع الفكري والأدبي في مجال النقد في العام 1995، وإصدار مجموعة خواطر نثرية أيضاً بعنوان (رغبة في الانعتاق).. أما أحلامي الأخرى فليس لها تخوم؛ لأن المبدع إذا حصر إبداعه ضمن حدود معينة فقد قتل نفسه الأمارة بالأدب...

السيرة الذاتية
بيانكا ماضية
- إجازة في الآداب، قسم اللغة العربية، جامعة حلب، 1991
-  دبلوم الدراسات العليا، قسم الأدبيات، جامعة حلب عام 1995.
- تعد رسالة الماجستير بعنوان (شعرية الفضاء في الرواية النسوية السورية).
- رئيسة القسم الثقافي في صحيفة الجماهير بحلب.

حائزة على جائزة الدكتورة سعاد الصباح للإبداع الفكري في مجال النقد للعام 1995 عن النتاج الموسوم (المدينة في شعر نزار قباني) الصادرة عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع (دولة الكويت).

- عضوة اتحاد الصحفيين في سورية.
- عضوة أسرة تحرير مجلة ديوان العرب الإلكترونية.
- عضوة هيئة تحرير مجلة الضاد الحلبية لمؤسسها عبد الله يوركي حلاق.
- عضوة جمعية من أجل حلب المختصة بالشؤون الخدمية والثقافية لمدينة حلب.

- كاتبة وشاعرة وقاصة.
- تكتب المقال والدراسة الأدبية والزاوية الصحفية وقصيدة النثر والقصة.
- تنشر في الدوريات المحلية والعربية منذ العام 1994.

طبع لها:
- سليمان الحلبي أول منتقم من العدوان الغربي الحديث، دار الشرق الجديد، دمشق، 2007
 
 قيد الطبع:
 - المدينة في شعر نزار قباني (دراسة نقدية).
 - رغبة في الانعتاق (خواطر نثرية).
 - رجل في الذاكرة (مجموعة قصصية).
 - همس اللقاء (مجموعة شعرية).


ساسي حمام، (بيانكا ماضية: في الكتابة أحلم بسلام جميل)

نشر في العرب الأسبوعي، لندن، (2008)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon