استيقظت في عتمة فارغة إلا من الخوف والبكاء وصدى صراخ قديم، ظنت أنها نامت ساعتين أو أكثر بقليل، فوجئت بابتسامة يفرضها العمل على وجه أنثى عرفت من هيئتها أنها ممرضة.
قالت: حمداً لله على سلامتك... عادت بذاكرتها إلى الخلف واختصرت أياماً عرفت فيما بعد أنها قضتها كلها في المشفى. قفزت صورة والدها المحامي رغماً عنها أمامها، يتبختر رافعاً سبابته في وجهها ومرددا على مسمعها: لا تودي بنا إلى الجحيم، نحن عائلة محافظة، نعيش في مجتمع محافظ، نحافظ على تقاليدنا المحافظة، وعاداتنا المحافظة، وسمعة أسرتنا المحافظة. تتذكر ما قالت: "علمتنا دائما الدفاع عن الحق وكرست فينا حب الحياة وحرضت أيامنا على البحث عن الحقيقة". تتذكر ما قال : "الدفاع عن الحق ، يعني الدفاع عن الأصالة والتراث، وحب الحياة يعني الطاعة للوالد كما للزوج، والبحث عن الحقيقة ينتهي في وجود العائلة و السعي إلى الاستقرار". ولكن أي استقرار هذا الذي قصده والدها... تتخبط الذاكرة! هل قال والدها ذلك ؟ أم أنها ضاعت بين اليقظة والخيال؟ أو ربما سمعت هذه العبارات في فيلم مصري قديم واستعادتها الذاكرة الآن رغما عنها؟! تعود صور مرعبة لتتماثل أمامها، أنفها ينزف، خصل شعرها في يدها تمسكها الأصابع ، تغيب في اللاوجود، يوم العطلة، نشرة الأخبار، والدها يتابع بشدة، تستأذنه لتقول: "أبي سأعرفك بالشاب الذي اهتدى إليه قلبي، محامياً مثلك، لأكرر فيه حبي لك". لم تساعده رجليه القصيرتين على الوقوف، ظنته فرحاً، وأن يده ارتفعت وأمسكت جبينها ليطبع قبلة عليه، لكن يده فعلت شيئاً آخر مختلفا ...! في أقل من دقائق خمسة استعرض كل كتب القانون التي درسها في الجامعة منذ خمسة وعشرين عاما! لم يعثر على هذه الكلمة: الحب! يتساءل: هل احتكرها المحاضرون، لأهميتها ربما! ينتبه: لا! لأنها لا تنسجم مع الأخلاق، لم تبتدعها العادات! يرفض أن يظهر جاهلا رغم اقتناعه بذلك! يقول: أي قانون تعلمه ذلك الأحمق ليجعلك ترددين مثل هذه الكلمات؟! تتماوج الصور أمامها من جديد! ألم تحب أمي، وتعبدها زوجة؟ هل منعك قانون من ذلك؟ هل افترى القانون أنك خالفته؟ أليس ذلك هو القانون الأهم الذي رفعت به أعمدة بيتنا وأسست أسرتنا المستقرة؟! يتوقف ليعيد النظر!هل يمكن أن تكون هذه الكلمة مختزنة في مكان ما لديه؟ هو المتفوق والناجح! يقول: القانون يعترف بالحب، ولكن ليس خارجاً عن عقد النكاح! النكاح...! كان وقع الكلمة عليها صعباً أو ربما مرعباً، طالما ظنتها كلمة عابرة لا تخرج أبعاد حروفها عن العلاقة الجنسية المشروعة بين الرجل وامرأته، ولكنها استبعدت المعنى، تفكر: من غير المعقول أن والدها اختصر القبلة المسروقة، والعناق اللاهث، والتوق إلى الليلة الأولى بكلمة النكاح، والهمسات العالقة في الأذن، ومئات من الليالي الهادئة الحالمة كلها تختزلها خربشات التوقيع على الورق...! تدخل الممرضة، تقول: والدك في الخارج. يدخل، يقول: لم أقصد إيلامك، لكني قصدت توعيتك. تبتسم! متيقنة أن أعماقه خالية من ثقافته، أعماقه متيبسة، لا تتسع لبذور الحب كي تنمو، ثقافته لا تبتعد خارج القضية، ولا ترافقه إلى البيت، لسانه يتفوه الثقافة فقط أمام الآخرين... تعقد مؤامرةً مع نفسها، تكتبها على ما تبقى من روحها، رافضة قوانين والدها الجامدة، التي لا خيار أمامها إلا أن تكتب على الورق، تقول: حبي أقوى من قوانينك... يخرج، تزداد بقع السواد الغاضبة تحت عينيه، ربما كان يفكر بشيءٍ ما. تتحسس جرحها النازف، لازال نازفاً، روحها لازالت تنزف أيضاً. تبتسم مرة أخرى، تقول: لن أعود إلى جاهليته! لن أسعى إلى الانهيار بضعفي! أنا سأبقى...
سهام نصر، زاوية "تفاصيل متناثرة"، (ليت الحقيقةَ حلمٌ طويل!)
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon