لا بغايا ولا خاضعات

سكب عليها لتر بنزين. تحجّرت عيناها رعبا، وتحجّرت اوصالها. أشعل الولاّعة وأخذ يدنيها ويبعدها من جسدها المبلّل بالوقود، وكانت أصوات قطراته المتساقطة من ثيابها تقع على الأرض لتحدث دويّا لا يسمعه ولا يحسّ رهبته غيرها، هي وصديقتاها اللّتان تراقبان الموقف في عجز. بينما كان صديقاه يراقبان مدخل تلك الغرفة التحتيّة الصّغيرة المعدّة لحاويات القمامة في العمارة. فجأة ودون أن تدري أو تنتبه لتهديداته وإهاناته حاولت دفعه لتخرج هاربة، ولا يدري أحد الاّ هو كيف نشبت فيها النيران. تحوّلت بلحظة لشعلة حيّة، تسير على قدميها، بل تجري على قدميها نحو اللامكان. تملّكت منها النار وحاول واصدقائه دون جدوى اخمادها. ولم تمضي ساعتان حتى لفظت انفاسها في طريقها إلى المستشفى. أحرقوها حيّة. سوهان ذات السبعة عشر ربيعا. أمّا هو فاسمه جمال، في مثل سنّها، ويقطن نفس الحي، وسيقول فيما بعد أنها كانت صديقته وهجرته لغيره واراد فقط إخافتها. وحين قدمت الشرطة للقبض عليه، تعالت اصوات ابناء الحي من اقرانه لنصرته.

كانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس. وفاة فتاة في الضواحي الباريسية ليس بالامر الجديد، وضحايا العنف الذكوري من النساء تهمّ كلّ الطبقات. لكن الأمر زاد عن حدّه ليس فقط لبشاعة الجريمة، ولكن لموقف ابناء الحي الذين لم يخفوا تعاطفهم مع جارهم، ولم يخفوا في تعليقاتهم اعتبار سوهان بشكل ما مسؤولة عمّا حدث. لم تكن سوهان المسلمة محجّبة، بل كانت صديقة لشاب فرنسي، كان ذلك كفيلا لتصنيفها في الخانة الثانية. منذ انتشر الفكر الاصولي في الضواحي الفقيرة ذات الاغلبيّة المسلمة، صارت النساء تصنّف في خانتين لا ثالث لهما، المحجبّات الخاضعات للسلطة الذكوريّة، اللواتي يجب ان يتزوّجن رجالا من بلدهن الاصلي أو من ابناء الجالية، واللواتي لا يجب ان يندمجن في مجتمعهنّ، باعتباره مجتمعا كافرا، والأخريات، المتحّررات المنبتّات عن اصولهن، الخائنات، الساقطات، من الآخر، البغايا. وكانت سوهان تصنف في هذه الخانة. فاستحقت من وجهة نظرهم الموت حرقا. فكانت تلك القطرة التي أفاضت الكأس.

و لأنّ رد الفعل على ما حدث ويحدث وينذر بالمزيد كان وجوبيّا. كانت جمعية لا بغايا ولا خاضعات. أسّستها وقامت عليها مجموعة من السيّدات الفرنسيّات ذوات الأصول المهاجرة في أغلبهنّ. ووجدت تعاطفا وتجاوبا لم يكن يتوقّعه أحد، حتى صارت الجمعية النسائية التي لم يمضي على تأسيسها سوى بضع سنين في مرتبة الاحزاب السياسية ذات التأثير على المستوى القومي.

الاسم مستفز. ليس رغبة في الشّهرة، أو لجلب الانتباه، ولكن لأن القضيّة مستفزّة. والإسم معبّر أيضا. بل هو أصدق تعبير لأهداف الجمعيّة ولفكر أغلب النساء والفتايات. هنّ لا يردن سوى العيش بكرامة، دون أن ينعتن بابشع الأوصاف لمجرّد رفضهنّ الخضوع للسلطة الأبوية أو الذكورية، لمجرّد رفضهنّ الزّواج القسري في سن صغيرة حفاظا على ما بقي معشّشا في أدمغة آبائهن وأمهاتهنّ من مفاهيم بالية للشّرف، وسترة البنت والزواج من ابن البلد. لا يرغبن في أن يلبسن كالبغايا، ولكن لا يردن لأحد أن يفرض عليهن لباسا معيّنا وخاصّة الحجاب.

زواج غريب بين الاصوليين والمنحرفين يحدث في هذه الاحياء، ومناخ عفن نتج عن استغلال بعضهم للحريّة المتاحة وغياب التأطير الرسمي لاسلام فرنسا، حيث ينصّب من شاء نفسه متحدّث باسم الاسلام، ويأتي من لا يتقن حرفا من الفرنسية ليعمل كإمام وواعظ، ناشرا الفكر الاصولي والتكفيري، مستغلا أزمة هوية شباب الضواحي واحساسه بالعنصرية والاقصاء. وكما انتشرت فتاوى تحليل السرقة والاجرام لان اموال الكفاّر غنائم للمسلمين، انتشرت فتاوى الزام النساء بالحجاب وتكفير من لا تضعه على رأسها. ويتطوّع شباب الحي لتنفيذ الفتاوى وفرض الاحترام. والتحرش بكل من تعيش على الطريقة الفرنسية، وسلتهم في ذلك. يحدث هذا في فرنسا وليس في بلد شرقي. لذلك كان لا بدّ أن يكون الإسم مستفزّا ومعبّرا.

ترقد سوهان الآن في مثواها الأخير، ويحاكم جمال منذ يومين على جريمته، وتنشط الجمعية التي صارت الأشهر والأكبر، وتستمر المعركة، معركة كل النساء لعيش حياتهن كما يرغبن بحرية وكرامة ومسؤولية، لا بغايا ولا خاضعات.

4/8/2006


الحوار المتمدن

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon