الممرضات السوريات بين بياض اللباس وسوداوية الواقع

لازال الوصف يلتصق بهن كصفة أبدية تفتقت عنها القريحة الأدبية، بمرايلهن والقبعات التي يعتمرنها على رؤوسهن، يتمايزن بذاك اللباس في ممرات المشافي والمستوصفات، ليكون الوصف كما اللون الذي يرتدينه يحاكي ملاكاً استعار نقاء له من غيمة عابرة، غير أن للحكاية فصل آخر ترويها عن ملائكة الرحمة وابتذال تكرار الوصف دون معنى، ليبقى ترنيمة تردد في الخطابات والنصوص الدراسية لا غير..


ملائكة الرحمة... هل يوحي اللفظ بأن واقع مغاير يلفهن؟ هل يترك مساحة للتفكير بهموم ومشاكل المهنة التي قلدتهن ذاك الوصف، وصيرت حياتهن بحثاً عن ظروف حياة أفضل يتنازع تفاصيلها ألم عليهن تخفيفه، وألم آخر يختبرنه بواقعهن فيحرك دافعاً قوياً للحديث عنه. عن الأسباب التي دفعتهن لامتهان التمريض، بكافة ظروفه وهمومه، عن الواقع بتفاصيله تتحدث "ملائكة الرحمة"..

لعنة الفقر
من إحدى قرى جبلة أتت دعد إلى دمشق لتزاول مهنة التمريض بعد أن أنهت سنوات ثلاث في مدرسة التمريض. كان الاختيار الباكر لهذه المهنة حاسماً فالفقر الذي استوطن منزل عائلتها الكبيرة صير تلك المهنة أملاً في سد بعض الحاجة للعيش البسيط.
تقول دعد: «بما أن الدولة ملزمة بتعيين خريجات مدرسة التمريض، فضلت الالتحاق بها، حيث تبقى وظيفة الدولة ضمانة مهما كان الأجر الذي نتقاضاه فيها». تقضي دعد يومها بين مشفى حكومية وأخرى خاصة، حالها حال الكثيرات من الممرضات اللواتي تضطرهن ظروف الحياة وأعبائها لذلك، خاصة إن كن من المحافظات الأخرى ويساهمن في سد حاجات عائلاتهن والغالبية كذلك، «ماذا سيبقى للممرضة من راتبها الذي تتقاضاه من المشفى الحكومي إذا كانت مضطرة للاستئجار في المدينة وإعالة عائلتين في الوقت نفسه؟؟». دعد الآن ممرضة فئة ثالثة رغم أن زميلاتها اللاتي تخرجن بعدها بأربع سنوات أصبحن الآن ممرضات فئة ثانية، أي أعلى منها أجراً ورتبة، وذلك لأن قرار اعتبار الممرضات خريجات مدرسة التمريض موظفات فئة ثانية لم يصدر إلا في عام 1999، أي بعد تخرج دعد بأربع سنوات.

بين القطاع العام والخاص
منذ أكثر من ثلاثين عاماً وقفت سميرة متحدية أسرتها لتترك كلية التجارة وتلتحق بمدرسة التمريض، فتمتهن مهنة تتحدث عنها إلى الآن بعشق. بين اللاذقية ودمشق مسافة كبيرة، تتقاسم المدينتان عائلة سميرة لتتركها وحدها في دمشق تزاول مهنتها، وتبقي على أولادها وزوجها في اللاذقية، فلا يجتمع شمل العائلة إلا في العطل والمناسبات الرسمية. هذا هو حال سميرة منذ أن أحيلت على التقاعد بعد ثلاثين عاماً خدمة في مشافي اللاذقية الحكومية، فاضطرت للإقامة في دمشق للعمل في إحدى المشافي الخاصة. تقول سميرة التي تعاني الآن من مشكلة صحية في القلب مشيرةً إلى العلامة التي خلفتها الإبرة على ساعدها« منذ أيام قليلة خرجت من العناية المشددة، فأنا بحاجة لعملية قسطرة قلبية تصل تكلفتها إلى (180ألف) ل.س وليس بإمكاني دفع هذا المبلغ».
هو حديث يفتح المجال لعقد المقارنات بين مشافي القطاع العام ونظيره الخاص، فبالرغم من أن مشافي القطاع العام تستقبل أعداد كبيرة من المرضى، فيزداد العبء الملقى على عاتق الممرضات فيها، إلا أنها مازالت من وجهة نظر الممرضات أفضل بكثير من مشافي القطاع الخاص وذلك لأسباب عديدة سواء من حيث الراتب الذي يزداد بحسب الخبرة إضافة للعطل وطبيعة العمل رغم قلته وعدم توازيه مع حجم العمل الذي تقوم به الممرضات، إضافة إلى مسألة الضمان الاجتماعي والتأمين والثبات الوظيفي، الذي لا يتوفر في مشافي القطاع الخاص لتكون عبارة (الله معك) مصير ممرضة قد قصرت لسبب ما في أداء واجبها، أو آن الأوان للاستغناء عن خدماتها.
فهل كانت سميرة ستجري عمليتها مجاناً أو بتكلفة أقل إن كانت لا تزال تعمل في مشفى حكومي؟ تتنهد سميرة في إجابتها «قطاع عام... قطاع خاص... لا يختلف الوضع كثيراً، نحن مسؤولون عن حياة الناس، ولا أحد يسأل عن حياتنا». إذاً لم تشفع للممرضة خدمتها الطويلة (للعالم) والسهر عليهم للتخفيف من أنينهم الموجع.

مهنة العجائب
تدخل غرفة رئيسة الممرضات لتعدل طلب إجازتها المرضية. لن تقوى الممرضة التي بدا عليها الوهن والإرهاق على الحديث طويلاً، ويفهم من حديثها الخارج بصعوبة منها أنها تعاني مشكلة صحية في عامودها الفقري، ليست المشكلة تماماً هنا، فطلب الإجازة المرضية الذي أوردت فيه سبب الإجازة لم يكن مقنعاً تماماً بالنسبة  للمسؤولين عن منح الإجازات وما كان منهم إلا أن حولوها  لإجراء صورة لعامودها الفقري للتثبت من صحة أقوالها، وهذا الإجراء سيستغرق يومان أو أكثر على أقل تقدير. ستعدل رئيسة الممرضات طلبها وسببه إلى (نوبة ربو) كمشكلة صحية أيضاً تعاني منها الممرضة، ليوافق عليها سريعاً خاصة أن الممرضة المريضة لم يكن بإمكانها الصمود أكثر.
ثماني ساعات هو الوقت الذي تلتزم به الممرضة كدوام رسمي يحدد ساعات عملها، وعلى كل ممرضة المناوبة ليومين في الأسبوع، والوجبة الغذائية التي يجب أن تتوفر للممرضة للقيام بعملها الذي يفترض أنه ذو طبيعة خاصة، مسألة غير واردة في المشافي، إضافة إلى اللباس الذي يقتصر على بدلة التمريض والحذاء الذي يستبدل بغيره حين تلفه، والمفارقة الأغرب أن الممرضة التي تعتبر من أكثر الأشخاص عرضة للمرض، هي أقل الموظفين العاملين في الدولة حصولاً على الضمان الصحي فطبابة العيون والأسنان، والدواء مستثناة من طبابة الممرضات إلا الدواء المتوفر في المشفى. وبالنسبة لعائلات الممرضات فيحق للممرضة أن تعالج والداها فقط، بناء على البطاقة الصحية التي تحصل عليها في المشافي التي تحولت إلى هيئات كمشفى دمشق.
أما بالنسبة للقاحات والاحترازات الصحية تقول الممرضة مها «تتلقى الممرضات بعض اللقاحات بشكل دوري خاصة في المشافي العامة، كلقاح التهاب الكبد الوبائي» لكن لورين تنفي حصولها على أي لقاح بل وتروي قصص عن ممرضات أصبن بالتهاب الكبد الوبائي دون أن يلتفت إليهن أحد.
يبدو أن مسؤولية الوقاية من الأمراض التي قد تنتقل إلى الممرضة ملقاة على عاتقها بالدرجة الأولى، لتحاول قدر الإمكان أن تنجو بنفسها وتمارس مهنتها في الوقت ذاته.

من يطالب بالحقوق
ما أوردته معظم الممرضات عن أوضاعهن يشي بخلل ما يستحق الانفعال الذي أبدته الممرضة أماني في سؤالها «أين القانون من حقوق الممرضة، طبيعة العمل الذي تتقاضاه الممرضة لا يرتقي لمستوى الجهد الذي تبذله؟ أين حقوقنا في طبابة خاصة بالرغم من أن العاملين في الدولة بكافة قطاعاتها ينالون طبابة أفضل مما تناله الممرضة كذلك بالنسبة للقروض السكنية والتعويضات؟».
قد يكون السؤال في مكانه، غير أن المطالبة بهذه الحقوق تستلزم جهة فاعلة تنادي بها، وفي ظل إلحاق نقابة الممرضات بنقابة المهن الصحية التابعة لنقابات العمال يبدو أن الطريق الذي ستمر به هذه المطالبة حافل بالمحطات الروتينية، فلماذا لا يصار إلى إنشاء نقابة خاصة بمهنة التمريض تأخذ على عاتقها إحقاق حقوق العاملين فيها؟؟.

تارة خادمة وتارات أشياء أخرى
علامة واحدة حددت مصير منال في مفاضلة الشهادة الثانوية لتبدد حلمها في الإلحاق  بكلية الاقتصاد. علامة واحدة صيرتها طالبة في كلية التمريض لتقضي هناك سنواتها الأربع، وتعين بعدها مدرسّة في مدرسة التمريض، وبالرغم من تعيينها كموظفة من الفئة الأولى غير أن منال تقول «مهنة التمريض لا تأخذ حقها كما يجب، أنا خريجة جامعة لكن أعامل كأي ممرضة أخرى باستثناء مسألة الأجر» منال التي تأقلمت مع واقع مهنتها مازالت إلى الآن ترفض القيام بأي عمل غير التدريس في مدرسة التمريض «لن أقوم بالعمل الميداني لأنني أعرف تماماً المشاكل التي تعانينها الممرضات جراء الاحتكاك المباشر مع المرضى والأطباء والإداريين» بصراحة فجة ترفض منال أن يعاملها أحد بفوقية لن تقوى على احتمالها.
وتؤكد رئيسة الممرضات في مشفى دمشق السيدة وفيقة أحمد وجود نظرة دونية تلف مهنة التمريض والعاملات فيها «مازال المجتمع ينظر إلى الممرضة كخادمة في أفضل الأحوال، متناسي حجم العمل الذي تقوم به الممرضة».
في مقلب آخر ستكون تلك النظرة أرحم بكثير من باقي الشائعات التي تحوم حول الممرضات، وأبرزها ما ألمحت إليه نهاد بقولها «الناس بفكروا الممرضة من واحد لواحد» وهو ما تدعمه المسلسلات التلفزيونية حسب ما أضافت «المسلسلات التلفزيونية تصور الممرضة في معظم الحالات على أنها رخيصة تحاول إغواء أياً كان بدافع المال» كما أن المناوبات الليلية التي تفرض عمل الممرضة ليلاً مازالت غير مقبولة في مجتمعنا الذي يحلو له أن ينسج الحكايا البشعة حول ممرضة لا ذنب لها إلا أنها تؤدي مهنة لها من الهموم والمشاكل ما يجعل الكثيرين يعافوها.
نهاد التي اشترط عليها خطيبها السابق أن تترك عملها لما له من سمعة، رفضت الانصياع لذلك الشرط واستمرت في عملها، ولكنها تقول بمرارة «هناك نسبة عنوسة عالية في صفوف الممرضات قد تكون هذه السمعة سبباً فيها». هو سبب تفترضه نهاد لهذا الحال، بينما ترى لينا أن المشكلة تكمن في ساعات العمل الطويلة التي تقضيها الممرضة التي تضطر للعمل في أكثر من مشفى، ما يضيق خياراتها ويمنعها من ممارسة حياتها بشكل طبيعي في أحيان كثيرة.

مشاكل أخرى
كانت وفاء على علم مسبق بصعوبات المهنة حين اختارتها، لكن مشهد الممرضات اللواتي رأتهن في صغرها كان عامل جذب قوي دفعها لحب التمريض والتعامل مع صعوباته. تحكي وفاء عن مهنتها بين الماضي والحاضر بعد أن شارفت على تخطي العشرين عاماً فيها «في الماضي كنا كما الأسرة الواحدة أطباء وممرضات، ولكن بعد تحديد المهام زادت مهام الممرضة، كما زاد عدد المرضى فأصبحت الممرضة مسؤولة في بعض الأحيان عن متابعة 20 مريض». تتساءل وفاء كيف للممرضة أن تتابع كل هؤلاء المرضى بسوية عالية؟ وتضيف السيدة وفيقة على كلامها «نعم هناك نقص في عدد الممرضات بسبب الإجازات المرضية والأمومة لذلك يصبح ضغط العمل على الممرضة كبيراً جداً».

وفاء التي اعتادت رؤية المرض والألم في مكان عملها، واستطاعت من خلال توافقها مع زوجها الذي يتفهم طبيعة عملها درء الآثار التي قد يخلفها ذاك العمل على أسرتها، تنهي كلامها بمطالبة «لماذا لا يتم فرز الممرضات القدامى على المستوصفات حيث ضغط العمل هناك أقل بكثير من المشافي، الحال الآن أن الممرضات الجدد هن من يأخذن هذه الأماكن، بالرغم من أن الجيل الجديد مازال عطاءه في أوله، ويجب استثمار هذه القدرات»، ولا تخفي وفاء السبب الرئيسي من هذه المطالبة «بصراحة، نحنا الكبار تعبنا كتير».

مهنة مؤنثة ولكن..
تعد مهنة التمريض من المهن التي ارتبطت تاريخياً ارتباطاً وثيقاً بالأنثى، ذلك لصفات الرقة والعطف والسهر على المريض التي التصقت بالأم، فأصبحت الأنثى هي الأقدر على القيام بهذه المهمة وفقاً للتصنيف النمطي لأدوارها. وبالنظر إلى عدد الممرضات في مشفى دمشق (400) ممرضة مقابل (50) ممرض من الذكور، سيكون هذا الأمر جلياً لا ريب فيه.
المهنة التي تبدو مؤنثة لأسباب كانت بديهية من وجهة نظر الممرضات لدى السؤال عنها والتي تلخصت  بمقدرة الأنثى على الاحتمال والصبر والتخفيف من آلام المريض، وكأنها صفات عامة حكرٌ على الأنثى وحدها، أو عليها تمثلها،  لم تمنع وجود الكثير من الشكاوى تُسمع من المرضى وذويهم عن معاملة بعض الممرضات الفجة، والإهمال في تلبية احتياجات المريض إلا إذا ما قام ذوي المريض بـ(الدفع) للممرضة، وتروي أفين في هذا السياق  أن المبلغ الذي دفعته للممرضات ليقمن بتلبية احتياجات أختها يقارب تكلفة العملية التي أجريت لها. ولا تنكر الممرضة سلوى تقاضي بعض الممرضات لما يوصف بـ (البراني) «هذا شأن الكثيرين من العاملين في القطاعات المختلفة ولا يقتصر على الممرضات فحسب، وحين يكون الأجر الذي تتقاضاه الممرضة في عملها لا يكفي لتلبية مستلزمات حياتها، يصبح "البراني" ما تعتمد عليه وهو بمثابة هدية، وليس كالرشوة المستشرية في البلد» هذه الظاهرة وتعليلها لا تجد عند الممرضة سميرة أي مبرر لتقول «وحده بتنزع سمعة الكل، واللي ما بتشتغل بضمير الله لا يباركلها» لأنها ترى أن أي إهمال من قبل الممرضة في أداء واجبها سيعرض حياة إنسان للخطر، وهو الأمر الذي لا يغتفر.
التمريض بما تحمله هذه الكلمة من معنى ومسؤولية، يترك العاملات فيه بين مطرقة الحقوق المنتقصة من طبابة وتعويض وتوصيف وظيفي، وسندان المجتمع بما يلوكه من شائعات حولهن، لتظل الممرضة تحيا في ظل ظروف لم تنصفها من حيث الشروط الوظيفية الواجب توفرها للقيام بعمل يفترض أنه يمس الحياة واستمرارها، ليظل وجوب الارتقاء بأوضاع الممرضات مطلباً يستحق أن يحكى فيه عاليا طالما أن حياة الإنسان مهنة لهن، طالما أن وصف ملائكة الرحمة مردد بشدة في أدبياتنا العتيدة.

25/7/2006


موقع الثرى

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon