من المعروف أن الأطفال (والنساء والشيوخ) هم ضحايا الحروب في أي مكان. فهؤلاء العاجزون عموماً عن الحركة السريعة، والذين تقتضي طبيعة دورهم المجتمعي بقاءهم في أماكن سكناهم، يكونون دائماً هدفاً سهلاً للمعارك. وهو أيضاً هدف يفترض أن يكون مؤثراً. لكن التجارب التاريخية تثبت أنه لم يتم أخذ وضعهم بالحسبان في أي من المعارك المعروفة في العصر الحديث. إذ دائماً كانوا مادة إعلامية لصالح هذا الطرف أو ذاك! ودليل على همجية هذا الطرف أو ذاك! لكن الأمر لم يتجاوز هذه النقطة.
والأمر ذاته ينطبق على الحروب المتواصلة، الأهلية وغير الأهلية، التي لا تتوقف في منطقتنا. والمتابع لشاشات التلفزة يرى بوضوح كيف يستثمر هذا الأمر إعلامياً وسياسياً. لكن لم يتوقف أحد أمام هذا الواقع. كما لم تتوقف وسائل الإعلام لتتساءل عن وضع هؤلاء الأطفال فيما يجري! وإن كان هذا الوضع يستحق أن يؤخذ في الاعتبارات المختلفة التي تسبب الحرب، أو تشكل قاعدتها السياسية!
ما يقارب 750 ألف مواطن لبناني هُجر حتى تاريخ إعداد هذه المادة من بيوتهم في لبنان! وإذا أخذنا أن معدل الطفولة في لبنان (حتى 14 سنة) يقارب 27 % من السكان على وجه العموم، وهي نسبة تزيد في المناطق التي تعرض سكانها للتهجير، يمكن القول إن نحو 202.5 ألف مهجر هم من الأطفال! إنه رقم مرعب! وهو أشد سوءاً بمرات من الرقم الكلي للمهجرين! فهؤلاء الأطفال لا يتعرضون للتهجير المكاني وحسب، بل هم يتعرضون لأبشع ما في الحروب بعد القتل: يفقدون عالمهم الخاص دفعة واحدة! ويوضعون قسراً وبشكل مفاجئ في شروط مادية واجتماعية لم يعتادوها! ويوجهون انكساراً في صورة أهلهم الذين لم يتمكنوا من حمايتهم وتأمين استقرارهم! وأخيرا، وربما الأهم، أن أغلبهم يرى أبشع صور القتل والموت سواء بشكل عياني مباشر، أو عبر متابعتهم القسرية لشاشات التلفزة التي تنقل صور الموت كما هي! وهذه الشاشات ذاتها نقلت لنا صوراً لأطفال يشاهدون عيانياً جثث القتلى من حولهم، وبينهم أطفال ربما كانوا منذ لحظات زملاء لهم!
في دراسة للباحثة لبنى العيسى بعنوان: (اضطراب الشدة بعد الصدمة- الناجم عن الحروب) تورد تعريفاً للدكتور غسان يعقوب حول هذا الاضطراب يقول فيه: ينجم اضطراب ما بعد الصدمة حين يتعرض الشخص لحدث مؤلم جداً (صدمة) يتخطى حدود التجربة الإنسانية المألوفة (أهوال الحروب، رؤية أعمال العنف والقتل، التعرض للتعذيب والاعتداء الجسدي الخطير والاغتصاب، كارثة طبيعية، الاعتداء الخطير على أحد أفراد العائلة..) بحيث تظهر لاحقاً عدة عوارض جسدية ونفسية (التجنب والتبلد، الأفكار والصور الدخيلة، اضطراب النوم والتعرق والإجفال والخوف والاحتراز، ضعف الذاكرة والتركيز).. ورغم أن المفهوم والتعريف لا يختص بالأطفال، لكنه يشملهم بدقة، كما أن أثر هذه الصدمات هو أشد عليهم نظراً لبنيتهم النفسية والسلوكية الخاصة.
ويشير د. سليمان جار الله إلى أن آثار هذه الصدمة لا تتعلق فقط بخطورة الكارثة وشدة الضغط النفسي المتولد عنها، إنما أيضاً في الكيفية التي عايش فيها الفرد الكارثة (ماذا فعل؟ ماذا كان يمكن أن يفعل؟..).
كما يقول إن مواجهة واقع الموت المفاجئ في لحظة ما وزواله ثم عودته المتكررة فعلاً، أو معايشته باستعادته، يفتت صلابة النفس ويفقد حتى النفسَ المرنة كيفية التعامل مع هذا النوع من الصدمات. هول الكارثة يجعل الفرد لا يستطيع أن يتحكم في سلوكه ولا يدري إن كانت موفقة أم لا.
من الواضح هنا أن الأطفال ضحايا في لبنان هم ضحايا لهذا الاضطراب النفسي. أو ضحايا محتملون. فهؤلاء عايشوا فعلاً الموت مواجهة مرات متكررة! وأحياناً في اليوم الواحد. بل إنهم واجهوا آثاره المباشرة، وهي قد تكون ذات وطأة أشد في بعض الحالات من مواجهة الموت مباشرة، نظراً لعدم تكون المنظومة الفكرية الأساسية التي توضح ماهية الموت كنهاية للحياة. بينما مواجهة آثارها من ناحية التماس المباشر مع أشلاء الضحايا، وفي أوضاع شنيعة، وبضمنها أشلاء لأطفال ربما كانوا يلعبون معهم قبل لحظات، هي مشاهد تلامس مباشرة معرفته.
ويمكن تلمس بعض هذه المظاهر عبر شاشات التلفزة التي أجرت لقاءات مع أطفال في أماكن التدمير، أو في المشافي، أو في أماكن اللجوء. فقد كانت ردود أفعالهم توضح أنهم في حالة من عدم التركيز والتشتت، والذهول أحياناً. ويبدو أن الردود (القوية) التي أبداها البعض تشكل استعارات من لغة الكبار في محاولة لمواجهة هول ما واجهوه.
من المبكر طبعاً دراسة الآثار الفعلية الواقعة على أطفال لبنان. لكنه من المعروف أن أعراض هذه الاضطرابات واسعة ومديدة. تقول أ. لونة عبد الله الدنان نقلاً عن د. محمد الجبار إن من أعراض هذا الاضطراب استعادة خبرة الحادثة الصدمية استعادة مستمرة بطريقة أو أكثر من الطرق التالية: (استعادة تذكرية مزعجة للحادثة الصدمية تظهر عند الأطفال على شكل اللعب المتكرر والمتضمن للمواضع أو الجوانب المتعلقة بالصدمة). وهذا ما رأيناه حين قام أطفال مهجرون إلى بيروت برسم لوحات مختلفة اشتركت جميعاً في أنها تناولت الحرب القائمة، ومركزة جميعها على وجود الطيران الحربي في أعلى اللوحة، والأطفال الموتى متوزعين في باقي مساحة اللوحة!
ويكمل د. الجبار عن الأعراض قائلاً: (أحلام مزعجة على شكل أحلام مخيفة غير مدركة المضمون، كرب نفسي شديد عند التعرض لمنبهات إشراطية داخلية أو خارجية المنشأ تماثل جانباً من الحادثة الصدمية).
وفي دراسة سابقة نشرت على الإنترنت وتناولت وضع الأطفال في قطاع غزة، خاصة الأطفال الذي في عائلتهم شهيد (أب، أخ، أم، أخت..) بدا واضحاً أن الخلل الشديد في علاقة الأطفال موضوع الدراسة مع الحياة العادية. وبروز الخوف من الموت لديهم، والانطواء والتردد وغياب الثقة بالذات.
ورغم وجود بعض الجهود المدنية في قطاع غزة والضفة الغربية لعلاج هؤلاء الأطفال إلا أن حجم المشكلة أكبر بكثير من قدرة هذه الجمعيات المدنية. ولم تلتفت الحكومة الفلسطينية لهذا الأمر بشكل جدي. رغم آثاره الطويلة الأمد على المجتمع الفلسطيني.
وهذه الدراسة تدفع للقلق جدياً حول نتائج الحرب الحالية في لبنان على الأطفال. ليس من حيث سقوطهم ضحايا، بل من ناحية الآثار التي تتركها هذه الشدة الرهيبة على نفسياتهم. وهؤلاء الأطفال مقصيون تماماً من اعتبارات الجميع باستثناء استخدامه في البيانات.
وإذا كانت المعالجة الأساسية للمشكلة هي في الحرب ذاتها، وهذا مستوى لا يدخل في نطاق هذه المقالة، إلا أنه من الضروري الالتفات جدياً إلى النتائج التي ستترتب على هذا الأمر. ورغم أن بعض الجمعيات المدنية في لبنان وسورية تحاول تقديم بعض المساعدة النفسية للأطفال المهجرين، إلا أن ذلك أقل من الحاجة بكثير. وربما أنه من الضروري تدخل الحكومة في هذا الأمر عبر توجيه لأستاذة وطلاب أقسام علم النفس وعلم الاجتماع لوضع جهود مكثفة مباشرة في التعامل مع هؤلاء الأطفال. فربما تكون الجهود المبذولة في الوقت المناسبة أفضل أثراً بكثير.
2006-08-06
تنشر بالتعاون مع جريدة النور- العدد 256 (2/8/2006)
تنشر بالتعاون مع جريدة النور- العدد 256 (2/8/2006)
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon