النساء، والقرار الصائب

في عام 1998 أطلق فرانسيس فوكوياما نظرية عنوانها (تأنيث المستقبل) يدعو فيها إلى إعادة ظهور سلطة المرأة لأن تأنيث الشؤون الدولية، حسب رأيه، سيضيِّق الفرصة أمام الحروب ولا سيما إذا وضعت المرأة في المجتمعات الديمقراطية في موقع القرار السياسي. فالمرأة ستكون أكثر رأفة بالناس من الرجل، وأكثر حكمة منه عند اتخاذ القرارات.
ولا أدري إذا كان العالم الياباني فوكوياما قبل أن يخرج إلى العالم بنظريته، قد قرأ التاريخ العربي وتلمّسَ فيه أخبار بعض النساء العربيات والدور الذي لعبنه في تكوين الشخصية العربية.
وتساؤلي هذا لا يأتي من كوني امرأة، وإنما يأتي من باب الموضوعية المطلقة التي يفرضها تاريخ المرأة العربية، قبل الإسلام وبعده.
فهناك نساء يصعب حصرهن بعدد، استطعن أن يواجهن التحديات المحيطة بهن بشجاعة وحكمة ولباقة قلّ نظيرها عند الرجال.
فمن منا لا يذكر الأنماريتين ( الجدة: فاطمة بنت الخرشب، والحفيدة: الجمانة بنت قيس)، اللتين استطاعتا أن تبعدا عن قومهما حرباً تحصد المال والأبدان.
وذلك حين وقع خلاف بين ابن فاطمة (الربيع بن زياد) وبين صهره زوج ابنته (قيس بن زهير)، على درع تعود ملكيتها لقيس وأحب الربيع أن يحتفظ بها. لكن قيسا رفض أن يعطيه إياها، فاستحكمت بينهما حلقات الضغينة وقام كلٌّ منهما يستصرخ قومه للحرب والمنازلة.
وكادت الحرب أن تقع عندما حاول قيس أن يتخذ فاطمة رهينة بدرعه، التي اغتصبها منه ابنها الربيع.
لكنّ فاطمة لم تخف ولم تهن، بل واجهت موقف الأسر بحكمة ورباطة جأش. وقالت له قولا هزّ ضميره وأخجله، وذهب مثلا بين العرب:
" أي قيس! ضلَّ حلمُكَ. أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد، وقد أخذتَ أمهم فذهبتَ بها يمينا وشمالا، وقال الناس في ذلك ما شاءؤا؟ حسبك من شرٍ سماعه!"
أمّا الجمانة، فلجأت إلى المنطق والمحاورة مع جدها الربيع، قائلة له:
"إذا كان قيس أبي، فأنت يا ربيع جدي. وما يجب له من حق الأبوة عليّ، إلا كالذي يجب عليك من حق البنوة لي. والرأي الصحيح تبعثه العناية، وتجلى عن محضه النصيحة. إنك ظلمت قيسا بأخذ درعه، والمعارض منتصر والبادي أظلم. وليس قيس مما يُخوّف بالوعيد ولا يردعه التهديد. فلا تركُنَنَّ إلى منابذته، فالحزم في متاركته. والحرب متلفة للعباد، وذهّابة بالطارف والتلاد. والسلم أرخى للبال، وأبقى لأنفس الرجال. وبحق أقول، لقد صدعتُ بحكم، وما يدفع قولي إلا غير ذي فهم". ثم أنشأت تقول:
أبي لا يرى أن يترك الدهر درعه                 وجدّي يرى أن يأخذ الدرع من أبي
فرأي أبي رأي البخيل بماله                       وشيمة جدي شيمة الخائف الأبي
وحينما سمع الجد ما ارتأته حفيدته، نزل عند رأيها وردّ الدرع إلى أبيها قيس، وبهذا حُقنت دماء العرب.
ألستم معي في أنّ فوكوياما كان منصفا في نظريته، وأن النساء أقل عنفا من الرجال، وأكثر ميلا منهم إلى تأسيس مجتمع آمن ومسالم؟.
وتأكيدا على النظرية التي ترى في تأنيث المستقبل ضرورة إنسانية، ناشدت في العام الماضي ستة عشر وزيرة خارجية من دول متعددة، الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، التأكيد على أن تحظى المرأة بمعاملة خاصة في مناطق الحروب. وأن تتم دعوتها للمشاركة في مفاوضات السلام، عند إنهاء الحروب.
وقالت الوزيرات في خطابهن، إنهنَّ مقتنعات تماما أن التطور البشري باتجاه توفير الأمن، يمكن تحقيقه فقط من خلال المجتمعات التي تحمي الحقوق الإنسانية للمرأة.
 وعطفا على ما تقدم يمكن القول إن القيادة السياسية في سورية، تعمل على حماية الحقوق الإنسانية للمرأة في مختلف الميادين. والمؤتمر الخاص بالمرأة الذي سينعقد في مطلع الشهر القادم تحت رعاية عقيلة السيد رئيس الجمهورية، يؤكد ما أقول، ويشير إلى تقدير القيادة للدور الإيجابي الوطني والاجتماعي، الذي تقوم به المرأة في سورية.
كما أن انعقاد هذا المؤتمر في دمشق يدلل على أن زمنا عربيا جديدا ينطلق من سورية، لاستنهاض جميع القدرات بغض النظر عن الجنس.
لا شك بأن الطريق إلى تحقيق الأمثل لا تخلو من صعوبات وعقبات، لكن تذليلها ليس أمرا صعبا إذا فسحنا في المجال للمرأة لتتعلم وتثقف نفسها.
فهي الجناح الثاني الذي به ينهض الوطن، وهي شريك الرجل في تنمية المجتمع، وفي ترسيخ القيم والانتماء والهوية.


جريدة تشرين 2005

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon