أشد التفاصيل حزنا ومأساة هي غربة الإنسان عن إنسانيته ! نحن بشر نولد حاملين حيوانيتنا وبدائيتنا بالفطرة، لكن نصفنا الآخر وهو الأرقى بالتأكيد، أي النصف الإنساني يأتي لاحقا، فالإنسان لا يولد إنسان، إنما يصير كذلك، أجل الإنسانية اختيار، الإنسانية معنى، وبدون هذا المعنى يبقى الوجود وجودا متلقيا فقط.
أستحضر هنا تمثال أبي الهول، ترى ألا يكشف هذا الرمز عن رغبة دفينة لدى المصري القديم في تحرّر الروح من الجانب المادي، وقد نحت تمثالا بجسد حيوان ورأس إنسان؟ ذلك النحت يلخّص الفكرة تماما، علما أنني لست من دعاة نبذ الجسد أو تدنيسه، لكن ما أرفضه بالتأكيد هو أن يكون الإنسان مجرّد مادة لا تفكّر، لا تعقل، لا تشعر، لا تطمح وبالتالي لا ترقى. (سيكولوجية الإنسان المقهور) للدكتور مصطفى حجازي، هذا ما أعدت قراءته مؤخرا إذ كنت قرأت هذا الكتاب منذ عدة سنوات، كتاب يدرس التخلف الاجتماعي بصورته النفسية استنادا إلى علم النفس. في الحقيقة، ما لم أفهمه في القراءة الأولى، فهمته في الثانية وحالتي هذه تشبه إلى حد كبير ما توصّل إليه (جان بياجيه) من (أن تأثير المحيط على الإنسان يتغير بتغيّر وعيه به) وهذا ما حصل معي، ففي القراءة الأولى لم تؤثر بي صفحات الكتاب مثلما فعلت في القراءة الثانية، خصوصا أني أصبحت أكثر وعيا لمناخ القهر الذي يحيط بنا جميعا كأناس مقهورين. يقول المؤلف في مقدمة كتابه (أصبحت الكتابات حول التخلف منذ أوائل الخمسينات غزيرة، نظرا لبروز ظاهرة الدول المستقلة حديثا، في ما يطلق عليه اسم العالم الثالث، والمشكلات والقضايا التي طرحتها مهمات النهوض الاجتماعي فيها، اتخذت هذه الدراسات وجهات متعددة، ولكنها تركزت أساسا حول الاقتصاد والصناعة والعناية بالسكان (صحة، تعليم، تغذية، إعمار...) فنشأ عن ذلك علم الاقتصاد وعلم اجتماع التخلف. ولكن الإنسان المتخلف لم يعط الاهتمام نفسه الذي وجّه إلى البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. صحيح أن الإنسان هو وليد البنية الاجتماعية المتخلفة ولكنه ليس مجرّد أمر مادي قابل للتغيير تلقائيا). هذا بالضبط ما أثار اهتمامي بالكتاب، أي التركيز على الجوهر الإنساني ودراسة البنية النفسية للإنسان المتخلف وإبراز العلاقة الجدليّة بين البنية الاجتماعية المتخلفة وبين إنسان هذه البنية والذي هو نتيجتها. -أرى أن ما يثير النّفور والاستياء والقلق هو أن جلّ الاهتمامات في المجتمعات المتخلفة تنصبّ على خارج الإنسان، ويعتقد أن الثروة في الأمور المادية، بينما الثروة الحقيقية تقبع داخل الإنسان لا خارجه. لذلك نرى أن جهد الحكومات في المجتمعات المتخلفة ينصبّ على القوالب المادية والشكليّات المزيّفة، متجاهلة بذلك العمق الإنساني. فعلى سبيل المثال تسعى تلك المجتمعات أن تبني دور أوبرا كواجهة حضارية ثقافية تظهر مدى تقدّمها وتمدّنها، ولكن المهم والجوهري في الموضوع (أي الفن) لا يعار اهتماما. أيضا تحرص المجتمعات المتخلفة على كثرة الأبنية الدينية وضخامتها وتنفق على ذلك ميزانيات هائلة، لكن الإيمان الصادق الحقيقي لا يعنيها، أيضا وأيضا تعنى هذه المجتمعات بضخامة المناهج المدرسية والحشو المعلوماتي، لكن لا يعنيها خلق إنسان يفكر ويبحث، بل وحتى حينما يمنع الضرب في المدارس كقانون مثلا لا يكون هناك حرصا على تطبيق هذا القانون ولا يكون هناك هاجسا حقيقيا يأخذ بعين الاعتبار إنسانية التلميذ وكرامته، إنما فقط مجرّد شعار يظهر وجها حضاريا مزيّفا، وقس على ذلك الكثير من القوانين التي هي مجرّد شكليات، فالإنسان المقهور غريب عن قوانين بلده وهناك شرخ حقيقي بين الدولة والمواطن وأقول مواطنا على سبيل المجاز، فالناس في المجتمعات المتخلفة هم رعايا وليسو مواطنين ينتمون انتماء حقيقيا لبلدهم، كما وتتفاخر هذه المجتمعات دوما بما لديها من مؤسسات ونقابات مهنية ومنظمات شعبية، لكنها لا تسعى أبدا إلى تفعيلها ويبقى العنصر الإنساني في هكذا مؤسسات مغيّب والنتيجة أيها السائح هي أنك أنى توجّهت وفي كل الشوارع المضيئة لتلك المجتمعات ستجد مظهرا حضاريا، لكنك ما أن تقرر أن تصبح ابنا لهذه المجتمعات وتدخل في عمق الشوارع المعتمة، حتى تكشّر لك عن أنياب بدائية فترغب في العودة إلى صفتك كسائح وترحل، ويبقى ابن هذه المجتمعات المغترب عنها القابع تحت خيمة الشيئية دون أن يتمكن من الرحيل! أترك لك المجال صديقي القارىء لطرح أمثلة أخرى وهي لا تعد ولا تحصى. الدكتور حجازي في دراسته يظهر الخصائص النفسية للتخلف، فيشخّص علاقة القهر، ويفصح من خلال دراسته (أن الإنسان المقهور يعيش في عالم من العنف المفروض،أولا: عنف يأتي من الطبيعة (الجفاف- الفيضانات- الأمراض والأوبئة...) فيعيش الإنسان المتخلف في حالة تهديد الطبيعة الدائم، ويكون لديه ميل سحري لأنسنة الطبيعة، إنه يصورها على غرار الأم الرحوم المعطاء تارة، وعلى صورة الأب القاسي العنيف تارة أخرى، أو على صورة الأم التي تمنع عن ولدها العطاء. القدرية والأمثال الشعبية كلها محاولات سحريّة لإدخال بعض التنظيم على هذا الاعتباط بغية السيطرة عليه، إما من خلال الاستكانة للمقدّر والمكتوب، أو من خلال تبريره كجزء من طبيعة الحياة نفسها يجب قبوله كما هو.ثانيا: يضاف إلى علاقة القهر تجاه الطبيعة، نوع آخر من القهر، ألا وهو القهر الإنساني، فالإنسان المتخلف هو في النهاية الإنسان المقهور أمام القوة التي يفرضها السيد عليه، أو المتسلط، أو الحاكم المستبد، أو رجل البوليس، أو المالك الذي يتحكم بقوته، أو الموظف الذي يبدو وكأنه يملك العطاء والمنع، أو المستعمر الذي يفرض احتلاله، وبذلك يصبح الإنسان مقهورا لا حق له ولا مكانة ولا قيمة إلا ما شاء الطرف المتسلط أن يتكرم به عليه، ومن هنا تتحول علاقة (أنا-أنت) التي تتضمن المساواة والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر وحقه في الوجود، تتحول إلى علاقة (أنا- ذاك) وذاك هو (شيء) هو كائن لا اعتراف به، بإنسانيته وقيمتها أو بحياته وقدسيّتها) - وفي طبيعة الحال فإن التشييء يبدو في أوجه عندما ينظر للمرأة كجسد، كموضوع وليس كذات، فالمرأة تضّطهد مرّتين، مرة لكونها إنسان مقهور في مجتمع متخلف، وأخرى لكونها إمرأة. يؤكد الدكتور حجازي (أن علاقة القمع تحتاج باستمرار إلى تغذية نرجسيّة السيّد، ومن هنا استمرار العنف والتعسّف واستمرار التّبخيس الذي يصيب إنسانية الإنسان المقهور). ويتابع كذلك في دراسته تشريح نموذج التسلّط والخضوع ليصل إلى (أن هذا النموذج يعمّم على كل العلاقات وكل المواقف من الحياة والآخرين والأشياء، بين الرئيس والمرؤوس، بين الرجل والمرأة، بين الصغير والكبير، بين القوي والضعيف، بين المعلم والتلميذ، بين الموظف ورجل الشرطة من جهة والمواطن من جهة أخرى، حتى الموقف من الحيوان والجماد يتميز بالموقف التسلطي الرّضوخي نفسه، لا بل وحتى الحب كحالة وجدانية يعاش في البلاد النامية تحت شعار تسلط المحبوب ورضوخ الحبيب وحتى في حب الأم لأبنائها بكل ما يتميز به من حرارة عاطفية، يغلب عليه الطابع التملّكي). ويغوص الدكتور في أعماق النفس الإنسانية المتخلفة المقهورة فيتطرّق إلى (عقدة النقص التي تميز وجود الإنسان المقهور، وإلى عقدة العار والتي هي تتمة طبيعية لعقدة النقص، حيث أن الإنسان المقهور يخجل من ذاته، إنه في حالة دفاع دائم ضدّ افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه)،- - أعتقد أن هذا ما يحصل بالضّبط في مجتمعات مغلقة كهذه، أجل، ألا تخاف المجتمعات المتخلفة مثلا من الإفصاح عما فيها من فساد أو جرائم أو بؤس وفقر وأمراض...؟! فتلجأ إلى التّعتيم الإعلامي على هذه القضايا لتظهر الوجه البرّاق والملمّع وتلبس الأشياء بأقنعة مزيّفة! وإن تجرّأ أحد ما على كشف المستور، تظهره على أنه خائن لهذا المجتمع، لا على أنه حريص على كشف الأخطاء من أجل تجاوزها. في الحقيقة إن الكذب خاصيّة مهمة للإنسان المقهور، فهو دائم العيش في ازدواجية الظاهر والباطن. ويتابع الدكتور حجازي في عقدة العار أيضا فيقول (أن الرجل المقهور يسقط العار أساسا على المرأة، المرأة العورة أي موطن الضعف والعيب، وبسبب هذا الإسقاط يربط الإنسان المسحوق شرفه كله وكرامته بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية المحضة (أي الحياة الجنسية للمرأة) ولكن من الناحية الظّواهرية المحضة، ليس من قبيل المصادفات أن تحاط المرأة بكل هذه الأساطير حول دورها في التعبير عن الشرف المهدّد، فطالما أن أكبر درجات الغبن تلحق عادة بالمرأة في المجتمع الذي يتصف بالقهر، ليس من المستغرب إذا أن يربط الشرف بها ويسقط العار عليها، يصل الأمر حدا من التطرف يجعل القتل مبررا ومعترفا به اجتماعيا تحت اسم جناية الشرف، مبرّرا لأنه يعتبر انتفاضة مشروعة لاستعادة الكرامة والسّمعة اللتين هدرتا. هذا ويقول الدكتور حجازي يحق لنا أن نتساءل بعد دراسة عدة حالات مما يسمى بجنايات الشرف (قتل الأخت، أو البنت، أو الزوجة، أوالأم لأسباب جنسية) إذا لم يكن في الأمر خدعة تمارسها الفئة المتسلطة من خلال القيم التي تفرضها على الفئة المسحوقة، حيث تصور لها ارتباط شرفها وكرامتها بالمرأة بدل أن تربط بالمكانة الاجتماعية والمهنية، أليس في ذلك تحويرا للأنظار عن مصدر العار وسببه وهو الاستغلال والتسلط وما يفرضانه على الإنسان من قهر؟ فالإنسان المسحوق بدل أن يثور ضد مصدر عاره الحقيقي، يثور ضد من يمثل عاره الوهمي وهو المرأة المستضعفة، هذا بينما تحفظ الفئة المستغلة (بكسر الغين) لنفسها بلقب الشرف والنبل من خلال ما تتمتع به من امتيازات) - في الحقيقة أرى أن قيمة الإنسان الأخلاقية لا تكمن في القسم السفلي من جسده، إنما في القسم العلوي منه أي في قلبه وعقله، فالجسد حمّل منذ القدم أحكاما أخلاقية منها ما ارتبط بالقداسة ومنها ما ارتبط بالنجاسة والجسد ضائع بين هذا وذاك، بالرغم من موضوعيته أصلا بالنسبة لتلك الأحكام المغرقة في الذاتية.
وطالما أن الأسئلة تبقى أهم من أجوبتها، أسأل، - ألا ينبغي على الحكومات في الدول النامية أن تعيد صياغة علاقتها مع شعوبها بحيث يكون الإنسان قيمة بحدّ ذاته؟! -أما آن الأوان أن يتحرر العقل المتخلف من موروثه الخرافي الضخم كي يفكّر بعقلية منهجيّة قائمة على التحليل والتركيب؟! -متى سيؤخذ بعين الاعتبار الحاضر كبعد زمني نابض مهمّش بين ماض محنط (مقدس) ومستقبل (حلم وردي) لا يريد المجيء من كثرة ما يلقى على كاهله أعباء وأعباء هي بانتظاره بفارغ الصبر؟!
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon