كان كامل بك متدينا إلى حد التزمت، وكانت العادات والتقاليد أساس حياته، ففى كل ليلة يجتمع الوجهاء وفلاحو القرية في المنزل الضخم الذي يتصدر مجلسه والكل يحابيه ويلاطفه، ويعتبر كلامه منزَلا كيف لا وهو المالك للقرية والمتصرف بشؤونها.
لم يكن يسمح لابنته ليلى أن تختلط بأحد أو تخرج خارج أسوار القصر، وإن حدث ذلك فمع عدد من الخادمات ومرافق يمشى بعيدا عنهن، يراقب كل حركة تصدر من إحداهن ثم ينقل إلى سيده ما رأى شارحا كل خطوة من خطواتهن.
كانت ليلى تضيق ذرعاً لكل هذا التحفظ، وكم غضبت من أبيها لأنه يعاملها على هذا النحو، وكم تمنت أن تركض بمفردها بين الأشجار، أو تستطيع أن تتكلم مع أحد من غير رقيب.
وعندما كانت تخلو إلى نفسها تقف أمام المرآة، وتتفحص جسدها الذي نضج كثيراً وتتساءل عن ذلك الجمال الذي لم يره أحد، ولم يمتدحه أحد فيقول لها كم هي رائعة، وكم هي فتاة حسناء.
كعادة كامل بك، يخرج إلى صلاة العشاء فيؤم الناس في المسجد الذي هو جزء من المنزل الكبير، ثم يدعو قليلا ويؤمن الآخرون على دعائه ثم يتجه بهدوء إلى كرسيه الضخم في صدر المنزل وهو يلوح بعكازه في الهواء والكل يتبعه ويتمسح بجلبابه ولا تكاد تسمع صوتا احتراما لهيبته وقدره فإذا ما جلس تحلق الناس حوله جلوسا على الأرض المفروشة بالسجاد والبسط، ولا أحد يتكلم حتى يبادرهم هو بالكلام أو السؤال!
في تلك الليلة جاء شيخ القرية إلى المنزل وبرفقته شاب من الفلاحين، فدخل شيخ القرية وأشار إلى الشاب أن يبقى واقفا بالباب، تقدم الشيخ نحو كامل بك، بأدب جم، تحدث معه قليلا، ثم أشار إلى الشاب أن يتقدم وأردف قائلا لقد رضي كامل بك أن يلحقك بخدمته هيا قبل يده، فانحنى الشاب وقبل يد كامل بك!
لقد أعجب كامل بك بالشاب فهو جميل الوجه، طويل القامة، مفتول الزند، كل ما فيه يوحى بالقوة والبأس لذلك أنعم عليه بأن يكون مرافقه فيجري خلف عربته عندما يتجول في القرية، ويكون حارسا للقصر في الليل!
لم تكد ليلى تكمل المرحلة الإعدادية حتى توفيت والدتها، وقد حزنت عليها حزناً لا يشبهه حزن، خصوصا أن أمها ماتت متألمة وحزينة من قسوة كامل بك الذي لم يدخل غرفتها منذ بدأ المرض يغزو جسدها وحتى عندما كانت في صحتها لم تكن تسمع منه كلمة طيبة.
لقد أدركت ليلى أنها أصبحت وحيدة في هذا العالم بعد وفاة أمها، فهذا والدها يمنعها من متابعة دراستها بحجة الخوف عليها، ولم تنفع توسلاتها في أن يدعها تكمل عامها الدراسي، وكل ما فعله أن سمح لمعلمة المدرسة بزيارتها، وجلب بعض الكتب المفيدة لها، فكانت تمضى أياما في الطابق العلوى في غرفتها التي تشرف على حديقة القصر بالمطالعة وإعادة ما قرأت من كتب سابقة فلا تخرج من غرفتها إلا لتناول الطعام.
وكم تفاجأت في هذا اليوم عندما رأت والدها يدخل ويتبعه ذلك الشاب الأسمر الجميل فخفق قلبها خفقة كادت منها تسقط أرضاً، وبسرعة توارت خلف باب الغرفة تراقب الشاب وهو يحمل صندوقا كبيرا، وصوت والدها الأجش يقول له انتبه يا أحمد عندما تضعه في السيارة إنه هدية للسيد المحافظ.
أسرعت ليلى نحو النافذة وأطلت برأسها منها لترى أحمد وقد انحنى على المقعد الخلفي للسيارة محاولا وضع الصندوق بتأن بالغ، وما أن أخرج رأسه واعتدل بوقفته حتى التقت عيناه الواسعتان بعينيها فتعلق بهما للحظات، وشعرت أنها غرقت بزرقتهما وكادت أنفاسها تنقطع، فأغلقت النافذة وارتمت على السرير فأخذتها هزة عنيفة ثم غفت!!
تمضى الأيام وليلى ترقب أحمد من النافذة مرة، وتتعمد النزول إلى حديقة القصر عند قدومه وراء والدها مرة أخرى، لقد شغل كل تفكيرها، وكم التقت عيناهما معا، وكانت ليلى تعلم في قرارة نفسها أن أحمد لن يتجرأ على قول شيء لها لذلك قررت بأن الخطوة الأولى يجب أن تكون من قبلها، وهذا ما فكرت به طيلة الليل وهى تتقلب في فراشها تقلبا ممتعا ومنهكا، فهي لم تعرف لم إلى النوم طريقا في تلك الليلة.
كان من عادة كامل بك أن يزور المدينة كل يوم خميس فيحمل معه الهدايا إلى بعض المسؤولين المهمين، ويتفقد عمارته في وسط المدينة ثم يعود إلى القرية في المساء وهذا في كل أسبوع، فلم يغير من عادته شيئا، وكان هذا اليوم من كل أسبوع هو الفرصة المناسبة لليلى لتتصرف على هواها، فأحمد يجلس طيلة النهار والى المساء على باب الحديقة بانتظار عودة كامل بك.
لقد حاولت هذا اليوم أن تتقرب من أحمد ولكن شيئا ما كان يمنعها، كانت تسمع دقات قلبها بأذنها، لقد خانتها الجرأة، وقبل الغروب حاولت مرة أخرى ولكنها فشلت، فعادت إلى غرفتها حزينة وغاضبة في نفس الوقت، استسلمت لبكاء صامت مع إحساسها بحرارة عالية تصيب رأسها.. نظرت إلى صورة أمها ثم دفنت رأسها تحت الغطاء.
لم تعد ليلى كعادتها تنام ملء جفنيها حتى الصباح، بل أصبح القلق رفيقها منذ أن وقع بصرها على الشاب أحمد، فكم من ليلة تمر ولا تذق فيها للنوم طعما، وكم من ليلة قضتها تتأمل صفاء السماء وتعد النجوم، وعندما تشعر بثقل جفنيها تعود إلى فراشها وهى تأمل أن تغفو، ولكن سرعان ما تعود إلى قلقها والى التفكير بأحمد مرة أخرى، فتحس بضربات قلبها تتلاحق وتزداد رغما عنها.
في تلك الليلة التي سبقت سفر والدها زاد قلقها إلى حد فقدت فيه السيطرة على نفسها فأخذت تفكر بطفولتها التى لم تكن سعيدة في أكثر مراحلها، لقد توفيت والدتها قبل أن تشعر بدفء الحب والحنان في أحضانها، فهي لم تعرف معنى القلوب الدافئة، لم تتعلم من أمها ما يجب أن تتعلمه الفتاة، أما والدها الحاضر الغائب لم يسد أي فراغ في حياتها، فلا تجد رابطا يربطها به غير صلة النسب!!
في صباح هذا اليوم وقفت ليلى أمام المرآة، وأسدلت على صدرها شعرها المجدول، نظرت إلى طوله وغزارته ونعومته وهمست كم أنا جميلة جذابة، سمعت محرك السيارة، فوقفت على النافذة ترقب أحمد وهو يفتح البوابة، والسيارة تنطلق خارجها.
راود ليلى شعور غريب! لأول مرة تشعر بالطبيعة على هذا النحو إنها تبعث الجمال بقلب من يشاهدها حيث الهواء الساكن الرقيق الذي عجز عن تحريك الأغصان والسماء صافية مشرقة تبعث في النفس الطمأنينة.
كانت صورة أحمد تتبعها وتلازمها وتمتزج بكل ما تفكر به بل تتعقبها وتطاردها من بين أفكارها بدون انقطاع فدائما تجده أمامها ومن حولها وفى نفسها.
لقد قررت ألا تفوت فرصة لقائه في هذا اليوم!
كان أحمد يراقب ليلى بجنون وحذر شديدين، كيف لا وهو الفلاح البسيط الجاهل الذي لم يتلق تعليما ولم يملك يوما من الأرض قيراطا، كان يعلم أنه لا يجوز له أن يفكر لحظة بابنة البيك المرفهة الناعمة، وحتى لو فكر بها ماذا سيفعل فهو لا يجرؤ حتى على النظر إليها مباشرة! لقد أحبها منذ أن رآها صدفة في شرفتها والتقت عيناه بعينيها، لم يعد ينسى عينيها السوداوين ولكن كيف السبيل إليها وهى ابنة كامل بك!؟
جلس أحمد كعادته أمام البوابة وقد أمسك بيده عودا يحرك به التراب وكأنه يبحث عن شيء قد ضاع منه. كانت ليلى ترقب استغراقه هذا من النافذة بعد أن اطمأنت لخروج أبيها من القرية، لقد اتخذت قرارها في الليل أنها ستنزل وستراه، وقفت أمام المرآة فكت جدائل شعرها ثم أرسلته برفق على كتفيها، أخرجت من الجرار قلم الشفاه الذي كانت تخفيه، وضعت قليلا منه على شفتيها وخديها فازداد وجهها إشراقا وتألقا، فتحت خزانة الملابس انتقت أجمل أثوابها الذي يظهر بعض أنوثتها لبسته بفرح غامر، وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها وكأنه ترى نفسها لأول مرة!!
هبطت ليلى الدرج بحذر بالغ ومن غير أن تصدر أدنى صوت، خرجت من باب القصر واتجهت نحو البوابة وهى مصممة ألا تخونها جرأتها، فتحت البوابة وقفت أمام أحمد الذي انتصب واقفا في ذهول، ثم قال متلعثما: ما بالك يا سيدتى؟! ماذا حدث في القصر؟! هل.. هل هناك ما أستطيع القيام به؟
لم تنطق ليلى بكلمة بل أمسكت كلتي يديه ثم ارتمت على صدره، رفعت رأسها نظرت في عينيه، طوق خصرها بيديه، قبلها بقوة شهقت وشهقت وأشعلت جذوته جذوتها.. ومن غير إحساس بما حولهما مشيا نحو غرفته الصغيرة آخذا من المتعة كل ما أرادا. بعد مضى بعض الوقت عادا إلى وعيهما قال أحمد: هل من الممكن أن نتزوج؟ هل سيرضى البيك؟ يا إلهى كيف سيقتنع بذلك!
ردت ليلى وأنفاسها مازالت تتقطع، يجب أن تذهب إليه بوجاهة من القرية لعله يرضى قال أحمد ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، قالت ليلى ليس هناك حل آخر يجب أن تأخذ أحد الوجهاء الكبار بواسطة شيخ القرية لحل هذا الأمر فرد أحمد سنرى.
حاول أحمد المستحيل مع شيخ القرية من أجل أن يأخذ أحد الوجهاء ويذهب إلى كامل بك لطلب يد ابنته، ورافق الشيخ مع أحمد بعد جهد كبير، وفي اليوم التالي وبعد صلاة العشاء وانفضاض الناس، طلب الشيخ والوجيه مقابلة كامل بك وبعد حديث قصير معه علا صراخه حتى ليكاد يبلغ مسامع أهل القرية كلهم، وراح يشتم الشيخ والوجيه بأقذر الألفاظ وآخر كلامه كان تريدون منى أن أزوج ابنتى لخادم لا أصل له ولا فصل، لا يملك قيراطا من الأرض، ليس له قيمة بين الناس، تريدون أن أعيش في العار، اخرجوا من بيتى حالا. اذهبوا إلى هذا الخادم اللعين وخذوه معكم وإلا سأقتله إن رأيته.
لم يدرى أحمد ماذا يفعل كان يهيم على وجهه من الصباح إلى المساء يتجول بين القرى، صورة ليلى لا تفارقه أبدا، كيف لا وقد ضحت بكل شيء من أجله.
في صباح يوم الخميس خرج كامل بك كعادته متجها إلى المدينة وجاء الليل ولكنه لم يعد لم تبالي ليلى كثيرا بالأمر فأحيانا كان ينام في منزله بالمدينة. ثم أنها لا تفكر في والدها أصلا فهب في مصيبة كبرى لا تعرف كيف ستخرج منها، طلع نهار الجمعة تسمع ليلى أصوات ضجيج وصراخ تنظر من النافذة ترى أشخاصا يحملون والدها تهرول إلى الأسفل تسأل عما حصل؟
يصيح الناس لقد وجد مقتولا ومرميا على طرف الحقل، لقد قتله خادمكم المجنون إنه يركض بين الناس ويقول قتلت البيك.. قتلت البيك. أمسك المخفر بأحمد وبعد أن تبين جنونه حول إلى سرايا المجانين أما ليلى فقد أمضت شهرا بالقرية باعت فيه ممتلكات والدها ولم يعد يراها أحد بعد ذلك أبدا.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon