غادة اليوسف كاهنة وأديبة

في العالم السفلي الكتاب الثاني للسيدة غادة اليوسف وهو مجموعة قصصية تتأرجح فيها بين الكاهنة والأديبة، فما أن يطالعك الغلاف حتى يحضر التاريخ المقدس بأعمدته: عشتار.. تموز.. أريشكيجال ربة العالم الأسفل..

 وما إن يذكر البئر والظلام والذئب، حتى يحضر يوسف إلى الذاكرة أيضا، لذلك خلعت نعلي لأني أمام مقام مقدس يستحق التبجيل لما له من سطوة في الذاكرة وحضور قد يلتفّ حول المبدع فينتج فنا من وحي الزمن المقدس أو أن يتشرنق المبدع بخيوطه كما حدث مع السيدة غادة فكان في كل خلجات أبطالها ورموزها بدءا من العنوان مرورا بإهداء القصة الأولي - عبورا لكل الأحداث والأشخاص والمواقف وانتهاء بالخاتمة الجليلة.
-ما أن تقرأ فصلا حتى تسحبك الأسطورة إليها. لذلك أرى أن غادة لم تكتب مجموعة قصصية وإنما أنتجت ما يشبه الرواية تتناوب فيها الشخصية الرئيسية الذكورة والأنوثة -فمرة نرى البطل ذكرا وتارة أنثى،لكن المناخ واحد والمؤثر واحد والوعاء الروائي واحد أيضا. لكن العتب لأنها لم تترك أي تاريخ في نهايات الفصول أو ما أسمتها بالقصص، إذا لكنا وفرنا الكثير من الجهد في وصل الرواية وإعادة تنسيق فصولها وخلاياها بأنزيمات ربط لا تنفصل عراها..! قد يسأل سائل: هل يستحق هذا الكتاب الصغير كل هذه المقدمة وهذا الاهتمام؟!! فيأتيه الجواب على الفور: نعم لو قرأت الكتاب (الرواية) بإمعان. وعرفت القليل عن الروائية... بعضاً من ذاكرتها العملانية والمعرفية!!
يتألف الكتاب من اثنتي عشرة قصة قصيرة كما يخيل للقاريء من القراءة الأولى أما في القراءة الثانية ما أن تبدأ بترتيب البيت الروائي حتى تخرج بسبع من (اثنتي عشرة) وهي: بوابات درك العالم الأسفل عند مرور عشتار في الدهليز من سطح الأرض نحو ظلمة أختها ملكة الظلام والموت والتبدل والتحول. باحثة عن تموز الحبيب المشتهى فتضحي عشتار بتاج المُلك وأجمل الثياب والحلي (كما فعلت بطلة فوق جثة الأقنعة..!) متجردة من كل شيء حتى صولجانها. ويالها من تضحية نبيلة لإعادة الحبيب.
فلنتناول القصة الأولى *بارقة*والتي أهدتها غادة إلى كل يوسف يلقيه أخوته في الجب. إذا المسرح أسطوري بدءاً بتغييب يوسف الذي يعني أحد أشكال تموز..! ليس ذلك وحسب بل استعمال الكاتبة لجمل ومفردات تعزز البعد الميثولوجي، للقصص.. الرواية، فتبدأ قصتها ب: "قام من بين الأموات " إنه البعث إذاً..! "شمس لتموز " لم تُنضج التين ولا عناقيد الكروم ولا حب الحصيد."  تموز.! إشارة واضحة جداً للرحلة نحو أعماق الظلمة للتجدد والتحول وليس للموت. ذلك واضح تماماً، أننا أمام رموز مقدسة!! أما في القسم الثاني من الفصل الأول من رواية تبعثرت فصولها فتصف لنا العالم المحيط بيوسف الخارج من البئر.. السجن، والتبدلات التي طرأت على العالم إذ ركزت الأديبة على عالمٍ قذرٍ تتربع على ناصية كل شارع فيه حاوية مليئة بالقذارة يغوص فيها طفلان يتقاتلان على رغيف من خبز يابس وقطعة مهشمة من بلاستيك بما تحمل من معنى عزلي ولم يأت مفهوم (الزمن العازل) عند غادة عبثا إنه نتاج الزمن البلاستيكي العازل لترابط الخلايا الاجتماعية والحية في الطبيعة: يرى يوسف العائد أن كل شيء قد تغير نحو الأسوأ.. فقد أدرك بعد خروجه من الجب، السجن، أن يجمع في الجب يوسف وأخوته والذئب ومسرور السياف.. إذاً الإنسان في أزمة..! فالسياف يطلب المساعدة من يوسف السجين كي يخرجا معا..! إنها نبوءة مبطنة: (أن شيئا ما سيحدث..!)
*فوق جثة الأقنعة * البوابة الثانية لرحلة البحث عن الحبيب الذي نزل إلى العالم الأسفل فإذا اقتطعنا الصفحة السابعة من الكتاب وألصقناها في مطلع القصة الثانية لاكتمل المعنى وامتد وذاب في القصة الثانية التي تمثل رحلة العذاب المضني في البحث عن سيد الخصوبة.. الإله المحتجز والمعزول عن سيدة الكون عشتار. لم تسم الكاتبة بطل القصة ولا بطلتها بقصدية مدروسة لكي يعرف القارئ أنه المقصود بالمعنى وليس كما يخيل للكثيرين أن المؤلف يكتب حياته وحسب، ففي الحياة الاجتماعية تترك بطلة القصة أهلها وطبقتها وتغامر بجرأة نبيلة لإنقاذ الحبيب، أو الوقوف لجانبه في وجه طبقة لا ترحم، تكم الأفواه وتعتقل كل تموز، وكل يوسف،في آبار العالم السفلي لكي يذوقوا الويلات في الظلمة التي تتكرر مع مرادفاتها - الوحشة - الوحدة-المنافي -غياهب السجون- التخفي - التنكر..الخ.
فبطلة الرواية، وإن بدلت أسماءها ومواقعها فهي باحثة عن الحب الحقيقي الذي ضحت من أجله، مثل عشتار، بتاجها وحليّها وثيابها، ونزلت لتسلم نفسها بإرادة مطلقة وعظيمة إلى العالم الذي لا رجعة منه. فهل يلاحظ القارئ إن الكاهنة التي مارست علينا تعاويذها وسحبتنا خلفها عبر البوابات المظلمة إلى ربة العالم الأسفل اريشكيجال.. تلمّح لنا أنها ماضية بعناد إذ تقول:
- منذ أن اختارت طريقها أدركت أن حريتها ليست مجانية بل دونها شوك الطريق.. إلى آخر ما هنالك من وصف للدرب الذي تسلكه تلك الكاهنة العشتارية، كأنما لتضعنا في أجواء تذكرنا برحلات الآلهة وأنصافها، في عوالم أشبه بأقنية وأقبية لا أضواء فيها غير ما اختُزن في الذاكرة، فهل يكفي ذلك للعبور إلى البوابة التي تطل نحو الشمس..؟
تتمكن الأسطورة من وعي غادة.. فتتكرر المفردات التي تدلنا على عالمها الكهنوتي الغني مثل: (بوابة جنتها.. عطشها للحب.. نزوعها للإنعتاق والفعل - معبرا لسموات تتسع لخفق جناحيها) تضجّ روح (الروائية القاصة) فتذهلنا محاولتها لتحرير الزمن الدائري الكثيف في قصتها على نقيض الكثيرات ممن يكتبن ويكتبون القصة حيث نرى في نتاجهم أن الزمن ممطوط لدرجة الملل والتصحر إلى حد لا يسعك عنده إلا أن تترك الحروف كي تبعثرها الرياح. - لاحظ استعمال المفردات ذات المدلول الكثيف:
الساعة التي لا تستريح على الجدار الذي أدمن حصارها تشير إلى الثالثة - قلق وملل -وشعور بالحصار.
قد لا تمر صفحة إلا وتترك المؤلفة في وعي القارئ امتداداتها، فنرى الحيرة في اختيار الثوب الأسود أو الأحمر وعندما تقول البطلة: " سأقبع في البيت إلى أن أتقيأ حملي..!!" تحاول بقاع ذاكرتها الأسطوري أن تمدنا برمز جديد.. الأفعى "الأنّاكاندا" التي تتقيأ ما في معدتها عندما تحظى بفريسة أخرى. إنها لحياة قاسية جداً أن تفقد المرأة حبيباً وترحل بحثاً عنه فيقف بينها وبينه - جهله وأمه والزمن الظالم، في مجتمع متخلف لم ينضج حتى في حدوده الدنيا..!
لقد توحدت البطلة مع الواقع، فكانت أسمى، وأكثر تفوقا،ً من الحبيب المعتقل الذي ادعى يوما أنه تموز المخطوف من عشتار الزمان. ولكن رغم تفوق البطلة، العملاني والعاطفي، والوجداني، على الحبيب النظري فقط والذي لم يستطع أبدا أن يقود السفينة على نطاق المؤسسة الزوجية. فهذا النوع من الرجال لا يصلح أن يكون عنصرا في تيار ثوري ينشد التغيير-كما أرادت الكاتبة أن تقول-. تصاب البطلة بالإحباط فتمجّد جسدها، مفتاح قوتها، وكل مفرداته. فتخيّل جمالها العشتاري..! إذ تؤكد ذلك من خلال جمل هي غاية في الروعة ولم تقل عبثا:
- كانت يده ترفرف كحمامة يغويها الهديل على مروج الشمس.. يغلغل أنامله ساحبا إياها إلى أطراف المدى..
ما أجمل تلك الصورة.. وما أروعها في وصف الشعر الأسطوري..!! ذلك الشعر الذي يمتد مع يد الحبيب إلى أطراف الدنيا.. إذا هي الحياة.. الصورة الخلاقة والمقدسة والتي لا تنفصل عن المدى الأفروديتي للجمال. إنها أفروديت حقيقية جامحة أمام عشيق خائن وخائف وضعيف ومهزوم وطفل. ولم يستطع أن يكون سوى بدوي حتى بألفاظه:
- الباب يمرّر جمل... انقلعي... هذه أمي...!!
لقد حافظ على البداوة والسذاجة التي تقبع في أدمغة كل اليساريين العرب بأمانة، فليس المطلوب ألا يحب أمه، ولكن لأعلى حساب عشق الزوجة... كثيرون كانوا يدّعون التقدم في الوقت الذي يُجسِّدون الانهزامية والانتهازية كما في سلوك خالد الصديق الذي لم يكن شجاعاً لدرجة الكشف عن حبه لتلك المرأة التي تصبح وطناً..تصبح أمةً مقهورة.. خالد الانتهازي الذي عبَّر عن انتهازيته عندما نامت في سريره رغم محاولة البطلة تبرئته من سلوكه الشائن بعد أن تصفع وتركل إلى حد الإجهاض من الزوج مرارا، وأخيرا تستيقظ البطلة على واقع لا يمكن السكوت عليه رغم المحاولات الكثيرة لإعادة وصل ما انقطع، لكي لا تهزم تجربتها أمام ذاتها والآخرين. فتبدأ بتمزيق ثوب الزوج الأسود بعد أن سقط (المثقف والثوري والمبدع) في تجربة الأنثى في عالمنا العربي، وبيدها المكسورة من أثر الضرب. ترمي بالأسود كناية عن اجتياز مرحلة مع ناسها، وترتدي الأحمر رمز الحب والثورة، لتواجه مرحلة جديدة قد تكون أكثر قسوة وأكثر عماء، ولكن جموحها العاشق الذي لن تتسع له قلوب البداة والمتخلفين جعلها تبحث دائما عن فاتح للروح وليس للجسد، إذ حافظت البطلة على (بكورية الروح) فكانت وطناً بل عالما عاش تجربة الحرية والثورة التي حملت وليداً مشوهاً في أحشائها.
لنعد إلى حكاية العالم الأسفل، لنرى ما الذي حدث لتموز بعد عودة عشتار إلى الضوء، إذ وفت بوعدها لملكة العالم الأسفل بأنها ستسلم أحدهم بدلاً عنها فأعطت عشتار أوامرها بأن يُسلم تموز حبيبها لأختها ربما لأن رحلتها ضاعت هباءاً.. فتموز لم يكن محتجزاً في العالم الأسفل،كما حصل في الأسطورة، بل كان مختبئا في الزرائب.
لنمض نحو العالم الأسفل إلى البوابة الثالثة: قصة (من العالم الأسفل) عنوان فصل جديد من الرواية الذي تصور فيه الكاتبة حياة الأقبية الشبيهة بالعالم الأسفل.. عالم الأحياء الأموات.. سجناء وسجانين.. والبطل هو الجرذ الذي يتجول بين الزنازين متى شاء إلى أن تطالب السجينات بحجر يوضع فوق فوهة المرحاض، فيعيش تجربة اعتقال مرة ولم يعد يتجسس
 على العالم الأسفل لنساء فجّر الاعتقال عواطفهن، فخفن من عيني فأر يتلمظ عندما يرى انتفاخات أنثى تتهدل نحو العالم الأسفل باتجاه البوابة الرابعة التي عنوانها: (نتقن لغة الزيتون) قصة أو فصل آخر من العالم الأسفل يختلف قليلا لكنه غارق في الرمز.
*الشال محور القصة.. لم يكن سوى العلم بألوانه الأربعة والمعلق على جدار متداع يرمز إلى تصدع الزمن العربي المشار إليه بساعة معلقة على الجدار ذاته - ومسافة النظر التي تعني قراءة المستقبل ثم شجرة الزيتون المكسورة التي لُفَّت بالشال القديم كأن الراوية تريد أن تقول: أن الشجرة هي فلسطين جريحة وليست شهيدة، إذ لفّتها بالشال الآخر الذي لا يحمل ألوان العلم لكي لا توحي للقارىء بموت القضية!! فقد جُبِّرت الشجرة المكسورة كيد البطلة المكسورة أيضاً..!
إذاً هنا يتعانق الرمز بين ذراع أنثى بحجم أمة = زيتونة بحجم وطن. تتفاءل العجوز بعفوية: أن الزيتونة سوف تتغلب غلى عطبها وتعود كما كانت.
تركز الراوية على تعليق الشال الرمز، في المركز من البيت الذي يساوي المركز من المهام والقضايا العربية، كأنما بذلك تحث العرب أن يدركوا موقع الشال، في مرمى البصر، وبمواجهة عقارب الزمن، داقَّةً ناقوس الخطر.. (خطر مرور الزمن فوق الجدار المتداعي الذي يوشك على السقوط) كأنها تقول لنا: إنني أذكّر فلعل الذكرى تنفع..." فنحن شعب يأكل آلهته، ونعلق رموزنا في أعناقنا، ليس احتراماً لها، بل إمعاناً في تمزيق عرى تواصلنا الإنساني،و تهشيماً للجسور". ف: (الجسور المهشمة) بوابة جديدة قد تكون الخامسة من البوابات السبعة وهي تتمة قصة (فوق جثة الأقنعة) لكي تشكل فصلاً ثانياً من رواية العالم السفلي التي تغمر وعي البطلة مثلما يغمر الوادي الضباب بعد خروجها من تجربة قاسية وأزمة حقيقية لتواجه واقعاً جديداً تكون فيه أكثر اعتدالاً وأكثر ليونة. تطرح الكاتبة فكرة * بافلوف والمنعكس الشرطي كأن الكاتبة تقول لنا: لقد أضحى سلوك الإنسان مشروطا بمنعكسات، لأن البطلة صارت تتنازل، وتداري الذوق العام.و لم تعد تمارس شقاوتها وجرأتها في معارضة المحاضر، فهل بدأت تتحول إلى نعجة بافلوفية في (زمن عازل..!) (التعبير للكاتبة) زمن خانع اهتزت فيه القيم والقائمون عليها..!؟
تنتهي القصة بخلع الأثواب لأن من طقوس النزول إلى العالم الأسفل، أن يتعرى المرء من كل شيءٍ إلا من جلده.
مما كثف رموز العالم السفلي في نهاية القصة: (وإذ يداهمني البيت.. أخلع ثوبي القديم بأزهاره وأخفيه في كيس أسود من أكياس الزمن العازل..! ألقيه على درج *درك، أكثر دقة* الأيام منتظراً إلى حين يُحشرون) (لاحظ تأثير الزمن البلاستيكي!)
إنه التسليم المطلق للغيب، والواقع عندما تسقط الفلسفة والسياسة ويبقى العلم والدين عاجزين عن حل مشاكل العالم.
تتجه عندئذ الأنثى إلى "الحرملك" لتمارس طقوس الابتلاع وحسب. فتكتب على يافطتين واحدة للمطبخ وأخرى للسرير: (السلام عليكم وعلى الثورة السلام) إنها قصة جديدة تصور فيها الراوية التقدمي المتحول من العلمانية إلى أقصى درجات الغيبية والتخلف. إذ يُطرح هنا سؤال هام: هل كان ذلك التقدمي علمانياً حقاً بعد ذلك الانعطاف..؟؟
ذلك ما تصوره لنا السيدة غادة ببراعة أديبة تعيش اللحظة وتقبض عليها بمهارة امرأة متمكنة ومجربة ومثقفة عارفة أين تقود قلمها.. فوليد في هذا الفصل الممتد من قصة(فوق جثة الأقنعة) إلى (وعلى الثورة السلام).. فتتواصل الفصول مع بعضها لتشكل حدثاً روائياً مساحته تجتاز الوطن. أقول إن وليداً امتدادٌ للزوج الذي لم يستطع أن يصمد أمام أسرة جاهلة، كما يدّعي، فيحطم قراره ويحطم الأنثى التي وقفت بجانبه كما فعل وليد أيضاً، إذ سقطت عنه أوراق التوت وسقط معها. ولكن هذه المرة مبصوقا في خلقته وقفاه معاً.
أما الصبية التي بجانبه فهي الزوجة الثانية المتشحة بالسواد تناسباً مع اللحية الطالبانية، كما تسميها الكاتبة. والتي تحمل في ثناياها عفونة النفاق التاريخي.
إن جيل الثوار من العرب قد صورتهم غادة بكل وجوههم وأبعادهم فظهرت للقارىْ كل عقد وأمراض وخيانات الجيل وأقنعته. ذلك الجيل الذي يبني فوق تلك الأقنعة أحلاما ثورية لممالك وجمهوريات من كرتون سرعان ما انهارت مع الأقنعة.
فتحول كاسترو إلى ا بن لادن وغيفارا إلى سلطان يجمع حوله الجواري الحسان ويحلم بمزيد من المال والغلمان.
أما الفصل الأخير والهام فهو: قصتي (استعداد+ المنديل) تتكرر في الفصل الأخير شخصية عبد الصمد الظالم المسمى أبي (فكشة) لمعاكسته لزملائه عندما كان صغيراً. وعبد الصمد (الدعاس) الذي صار طاغية عندما كبر فاضطهد الطفلة حنين وكان مديراً للمدرسة يمثل السلطة المطلقة عليها.. قليل الإنسانية، ميت الضمير. فهل أنت مستعد عزيزي القارىْ للدخول معي من خلال قصتي(استعداد والمنديل) إلى الجو المقدس في (المركز الثقافي) الذي وضعتنا فيه الكاهنة غادة اليوسف بجدارة!؟
قصة استعداد، هي في الواقع استعداد لدخول أولى بوابات العالم الأسفل فكيف يكون المدير حامياً للديار، وذا نفس أبية ويصفع من يريد أن يزرع فيه النبل والإباء. تصف غادة هذه الحالة في لحظة وقوف التلاميذ في باحة المعبد المدرسي تقديساً، وتحيةً للرمز الوطني.. العَلمَ!
فأي مؤمن يصفع في معبد وبالكف التي توضع على القلب تمجيداً للإله السامي..!؟
أما قصة المنديل فهي الفصل السابع من رواية غادة اليوسف الذي تتألق في رسمه بقدرة أنثى أدركت كهف الألوهة فكانت كاهنة، وأديبة مدهشة استطاعت أن تسيطر على مصليّ معبدها بمهارة فائقة.. بقدرة كاهنة حولت القاعة إلى معبد. والحضور إلى مؤمنين خاشعين، تسيطر عليهم حالة من الخشوع الابتهالي، لأن غادة كانت تجلس خلف منبر أضحى مذبحاً عشتارياً، وقد تمسكت بقرونه وراحت ترتل فارشة ً منديل أدعيتها فامتدت الأدعية إلى آذن المؤمنين والمؤمنات (الحضور)، لتتوحد الكاهنة مع المكان وتذوب في زمان الكلمة.. البدء.. لتتوحد في حركة التفاعل الإيماني الجميل في ذاكرات المتلقين على اختلاف أهوائهم، فتفعل فعلها في عواطفهم وعواطفهن (فذرفن) ومسحن بمنديل قدسها الأبيض، فعادت إلى الأذهان حكاية الأضاحي والنذور التي يقدمنها العذارى بين يدي كاهنة جليلة في ذلك المعبد العشتاري الجليل.
لقد توحدت الروائية (غادة) مع الكاهنة (اليوسف)التي تقبع في أعماق كل النساء، فتسمو بذاتها لتتوحد في خلقها تلك الشخصية المعذبة،والمضطهدة التي رسمت الوردة في حكاية (الوحشة)على دفترها بلا ألوان..! (ألا يحق لنا التساؤل عن شحوب الوردة وذبولها ووحدتها..؟ ما هو رمز الوردة..؟ ألا يعني، الذبول والشحوب، غياب الماء؟ ما هو رمز الماء، وأقلام التلوين..؟
لقد ذابت الكاهنة الراوية في شخوصها وسيطرت على الزمان والمكان فتخلّقت عواطف كانت أسمى من أن يعبّر عنها بكلمات قليلة. لقد كان جلالها لدرجة أن الكثيرين من المتلقين أحبوا سماع القصّ على الرغم من أنه يوقف الكثير من القوى النفسية أثناء تلقيه من خلال الأذن، بعكس الشعر، الذي هو الصوت الإلهي، نستقبله مسلِّمين لعذوبته عندما يكون شعراً حقيقياً، فنذوب في حضرته..! لكن الكاتبة استطاعت ببراعتها الكهنوتية أن تختزل القصَّ، وتحوله إلى أغنية..(شعر)..! عندما تقمصت بطلتها وجمهورها ومعبدها. أغنية حاورت فيها الكاهنة غادة، السماء على لسان الطفلة - حنين - التي توحدت بدورها مع الطفلة، رسامة الوردة المتوحشة، على صفحة فارغة كأنها جدار أملس،كأنه السماء.
تبدأ الأغنية - القصيدة - بآ آ آ آ...هٍ طويلة متوجهة بتلك الآه - التاريخ - إلى السماء التي لم يبق سواها من قوى الذاكرة في روح الروائية..فتتوجه إلى الأم - السماء - وليس لأحد آخر لأن ثقة الراوية بالسماء، جعل الكاهنة، الطفلة اليتيمة،و الوردة المرسومة.. متوحدات على لوح من ورق كأنه صفحة السماء.! فجاء الصدى السماوي قاسياً ومحرضاً للعواطف إذ غنَّت: (الدنيا فضيت يا أمي والبرد غطّى المدى..) ألا يعني ذلك: أنها رسمت ذاتها وردة وحيدة وبلا لون على صفحة الدنيا الفاضية (الخالية) والماضية..!؟
*ملاحظة:
إن ذلك الإقفار والخوف يتكرران في الكثير من الروي والقص السوري والعربي.!
يجتاح البرد المكان وتعلو صرخة البردانة: (البرد غطى المدى.. تعالي يا أمي واحضنيني.. ما حدا يغطيني.)
اختارت غادة العبارات التي تهز الوجدان على لسان طفلة لأحول لها ولا قوة، فسالت سوائل الجسد بعد أن ترهلت الغدد..!
في القسم الثاني من الأغنية، تكون الكاهنة الباحثة عن تموز قد وصلت البوابة السابعة ودخلت الظلمة الشديدة والبرد القارس، وفي سرداب ضيق ومرعب حيث جرّدت الكاهنة من حليّها وثيابها، تلك الكاهنة المتقمصة الراوية وبطلتها. حيث يحضر التاريخ كله، والثقافات كلها لتضمحل في حضرة (الألم والخوف) في ذاكرة الراوية الطفلة، والتي راحت تغني مقطعها الأخير من حكاية السرداب والعالم الآخر،حيث العريّ التام إذ لا مال ولاجاه في حضرة الظلام وقد تجسد ذلك في: (مربوط جناحي بقفص.. أنا ما فيي طير.. والليل عميق وضيق..أضيق من البير..! غرقانة يا أمي تعالي وانشليني.)
(لاحظ البئر، والنداء، والاستغاثة اليوسفية، في المقطع الأخير.!) ألا يعبر ذلك أيضا عن الحالة الأسطورية التي كانت بها عشتار في العالم الأسفل بحثا عن الحبيب المفقود؟
يتبدل في النهاية عبد الصمد (أبو فكشة) إلى عبد الصمد (الدّعاس) المُضطَّهد للطفلة. وليس عبثاً اختيار كنية: (الدّعاس) عند غادة اليوسف.!
تدخل الأغنية عالم الدّعاس الأسفل وتفعل فعلها في ظلمته،فيتخلق في رحم تلك الظلمة جنين ضمير، كما تود الراوية أن تقول، فلا يسعه إلا أن يقدّم لحنين منديلاً كي تجفف به دموعها، بعد أن سقطت دموعه ودموع الحضور،في تفاؤلٍ، كان من خلق الراوية التي كانت برؤيتها الكهنوتية، وبقوة تعاويذها تفعل في ما وراء الحجب..! فهل يبقى عبد الصمد.. (الدّعاس) تحت تأثير تميمة الكاهنة غادة اليوسف..؟؟

محمد يوسف زهرة، (غادة اليوسف كاهنة وأديبة)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon