الصحّة للجميع.. بين الممكن والمستحيل

على مدى ثلاثة أيام، شهدت جنيف انعقاد مؤتمر دولي بعنوان "نحو الوصول الي الصحة العالمية" ناقش فيه خبراء سويسريون وأجانب مختلف التحديات التي تواجه قطاع الصحة، بعد أن تحول إلى ملف عابر للحدود يعكس سلبياته على الجميع.
وعلى الرغم من مشاركة أطراف متنوعة، إلا أن الجانب النظري فيه طغى على المقترحات العملية.
يتفق الخبراء على أن العولمة لا تلقي بظلالها فقط على الجوانب الإقتصادية، بل أيضا على مختلف الملفات التي أصبحت متداخلة بشكل لا يمكن فصل واحد منها عن الآخر بسهولة، مع اختلاف هذا التأثير من بقعة إلى أخرى من العالم.
وقد يكون الحديث عن "العولمة الصحية" مفهوما جديدا لدى البعض، لكن خبراء التنمية وعلم الإجتماع والأطباء يرون بأن هذا المصطلح نتيجة طبيعية لما يشهده العالم من تحولات كبيرة في قطاعات مختلفة، فلم يكن سهلا استثناء الصحة العامة وما يرتبط بها من ملفات مثل الدواء وصناعته وغيرها، من الوقوع تحت هذا التأثير، الذي تختلف تبعاته من منطقة إلى أخرى بالطبع.
وقد عبرت وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي-راي عن هذا الوضع في كلمتها التي ألقتها في نهاية أعمال اليوم الأول للمؤتمر (30 أغسطس)، حيث قالت إن قائمة المشكلات الصحية الملتهبة التي يواجهها العالم ضخمة، وأشارت إلى استمرار الفقر واللامساواة بين الجنسين، وزيادة الظلم والامراض المعدية مثل السل وفيروس نقص المناعة المكتسبة والملاريا والكوليرا، التي كان من المفترض أن يتم القضاء عليها بعد ما وصل إليه العالم من معرفة وتقنيات متطورة وثراء.
مداخلات اليوم الأول في المؤتمر ركزت على محاولة وضع صورة جديدة لمفهوم "الصحة العامة" الآن، إذ استعرض الخبراء كيف يختلف التعامل مع الملف الصحي من منطقة إلى أخرى، والعوامل التي تتحكم في هذا الإختلاف.
فقد وجد ايوغينيو فيلار الخبير السويسري في منظمة الصحة العالمية، بأن السويد هي الدولة الأكثر حرصا على ربط الملف الصحي بالحالة الإجتماعية مقارنة مع دول الإتحاد الأوروبي، في حين أن دولا أخرى لم يسمها، ترغب في فصل مسؤولية الدولة عن الملف الصحي بأكلمه، على أن يتحمل الفرد مسؤوليته بنفسه وفقا لإمكانياته المالية.
كما قدم فيلار صورة عامة حول الإختلافات الثقافية في التعامل مع ملف الصحة العامة، التي تشترك في أهمية العناية بصحة الفرد، ولكن كل على طريقته، وإن كان العصر الحالي يدعو إلى تكوين شبكة متكاملة تجمع بين المبادئ الأساسية الهامة للصحة العامة والجديد والحديث في هذا المجال، وكيف يمكن الإستفادة منه حسب الإحتياجات والضرورات.
 
تناقض بين الشمال والجنوب

الورقة التي استعرضها البروفيسور برونو غريسليس من معهد الأمراض الإستوائية في بلجيكا، كشفت عن بعد آخر للملف الصحي العولمي مثير للإهتمام، إذ قال بأن نسبة كبيرة من سكان الشمال أصبحوا من كبار السن، بفضل العلاج المتقدم ومستوى المعيشة المرتفع ولكنهم يحتاجون في الوقت نفسه إلى رعاية صحية متوالية، تكبد خزائن شركات التأمين مصروفات هائلة، في مقابل ارتفاع تعداد السكان في الجنوب، الذين لا تجد نسبة كبيرة منهم الحد الأدنى من العلاج، فضلا عن عدم توفر مبادئ الثقافة الصحية العامة، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض المختلفة.
وتضع تلك الصورة ملف العولمة الصحية على شكل شمال غني عجوز هرم يحرص سكانه على الحصول على أدق سبل العلاج لإطالة العمر حتى آخر ثانية ممكنة، وجنوب فقير، لا يجد أغلب سكانه أبسط سبل الرعاية الصحية، أو الأدوبة الضرورية الهامة، وهو تناقض واضح يدعو إلى وقفة للتأمل استعدادا للبحث عن حل.
هذه الصورة عبرت عنها أيضا وزيرة الخارجية السويسرية في كلمتها بأسلوب مختلف، إذ قالت بأن "نسبة كبيرة من سكان العالم يواجهون الآن نفس التحديات والمشكلات التي واجهتها سويسرا قبل 150 عاما، مشيرة إلى المشكلات الصحية للمرأة والطفل في دول نامية مختلفة، وأنه من غير المقبول في العالم المتقدم أن يرضى بهذا الوضع غير المنطقي".
 
مشكلة واحدة وأدوار مختلفة
وانطلاقا من هذه الصورة غير المتوازنة، يقول برنار غروسون رئيس المكتب التنفيذي لمستشفي جامعة جنيف، بأن أهمية هذا المؤتمر تتركز في أنه يدعم البحث عن كيفية وصول الجميع إلى صحة عامة متكاملة إلى حد ما، بغض النظر عن الفقر أوالثراء، وهذا يتطلب أجوبة عن أسئلة كثيرة؛ مثل كيفية فصل تمويل القطاع الصحي عن الإهتمامات الإقتصادية، والتحديات التي تفرضها شراكة محتملة بين رأس المال الخاص والدولة ككفيل إجتماعي، والضمانات التي يجب أن تتوفر للحيلولة دون وقوع مآس إنسانية، بسبب غياب اللقاحات الأساسية وعدم التشخيص الصحيح للأمراض.
فالمؤتمر يدرس على سبيل المثال الدور الذي يمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تلعبه في تدشين مبادرات على الصعد المحلية أو الإقليمية وربما أيضا الدولية، إما لتوعية صناع القرار السياسي بخطورة مشكلة تدهور الأوضاع الصحية في بعض مناطق العالم، أو من خلال الوساطة بين اهتمامات القطاع الإقتصادي الخاص في صناعة الدواء، والحاجة الملحة للأدوية والعقاقير الأساسية لأكثر مناطق العالم فقرا.
وريما استطاع جاكوب كللينبرغر رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن يعبر عن دور منظمات المجتمع المدني، عندما وضع الحاضرين في حفل الإفتتاح أمام الصورة الواقعية القاسية لحالات المرض والفقر وربط في مداخلته بين انتشار الصراعات المسلحة والحالة المتدنية للصحة العامة في العالم، مثلما هو الحال في أفريقيا على سبيل المثال، مؤكدا على أنه لا يمكن إنكار الربط بين الصراعات وانتشار الأمراض.

الحاجة إلى آليات تنسيق وقرار سياسي
ويقول الدكتور سليم سلامة، عضو اللجنة المنظمة للمؤتمر لسويس أنفو، بأن تحسين وسائل الرعاية الصحية تحتاج إلى أساليب جديدة، من ناحية لتسهيل الوصول إليها، ومن ناحية أخرى لتعدد الإهتمامات وتداخل الملفات الذي يكون في أغلب الأحوال طبقا للمصالح الخاصة، على حساب المسؤولية الجماعية الإنسانية.
ويؤكد الطبيب السويسري (من أصل تونسي) الشاب، بأن العلماء والخبراء والمتخصصين لديهم الآن حصيلة غير عادية من المعلومات والمعارف، وتقنيات متفوقة إلى اقصى ما يمكن أن يتخيله العقل البشري، وفي الوقت نفسه هناك حاجة إلى منظومة تضع آليات للتنسيق بين كل هذه الإمكانيات، لتعميم الفائدة، والتعرف بشكل أوضح على نقاط الضعف والخلل في ملفات الصحة العامة.
في الوقت نفسه لا يرى الدكتور سلامة بأن هناك فشل في مجال الصحة العالمية، بقدر ما هو تغيير جوهري في أسلوب التعامل مع مفهموم الصحة العامة، كنتيجة حتمية تفرضها عوامل التاريخ والإقتصاد والسياسية، وبالتالي فلابد من التعامل مع الملف الصحي من منظور جديد يتماشى مع هذه الظروف، مع وضع الخصوصية الثقافية والدينية محل الإعتبار عند البحث عن حل جماعي، حسب رأيه.
ويتطابق هذا الرأي مع ما أعلنته مفوضة الأمم المتحدة السامية السابقة لحقوق الإنسان ماري روبنسون، التي قالت في مداخلتها"إن النظام الصحي لأية أمة هو بمثابة قوة الحياة"، ونوهت إلى أن "الحق في الصحة لا يزال غير معترف به عالميا كأحد حقوق الإنسان الأساسية، مثل غيره من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية".
وربما لخصت ماري روبنسون التي تترأس حاليا "مبادرة العولمة الأخلاقية لدعم الحقوق الأساسية" الخطوة الحقيقية التي يجب اتخاذها وصولا إلى صحة عالمية متاحة للجميع، في أنها تتطلب قيادة ملتزمة ومشاركة حقيقية من الجميع مع عدم استبعاد وتهميش الدول التي تعاني بشدة من غياب ليس فقط ثقافة الصحة العامة، بل أيضا من الحد الأدنى من الوقاية من أبسط الأمراض، وهذا أيضا يحتاج إلى قرار سياسي.

الـسـيـاق
المؤتمر هو جزء من الاحتفال بالذكري 150 لإنشاء مستشفي كانتون جنيف، وهي مؤسسة لها باع طويل في التعاون الدولي والانساني في مختلف الانشطة ومع العديد من دول العالم، من بينها مناطق أفريقيا جنوب الصحراء والدول المغاربية، وحاليا أيضا في لبنان.
يشترك في تنظيم المؤتمر كل من جامعة جنيف ومستشفي كلية الطب في جامعة جنيف، بالتعاون مع منظمات الدولية مختلفة في مجالات الصحة والعمل والمهاجرين وشؤون العالم الثالث.
تابع أشغال المؤتمر حوالي 1000 خبير يعملون في مجالات الرعاية والتخطيط وتقديم الخدمات الصحية والتعليم الطبي، وصناعة الادوية واللقاحات إضافة إلى عدد من واضعي السياسات وممثلي المنظمات الانسانية الدولية والأخرى غير الحكومية والمجتمع المدني.

معلومات أساسية
- 50% من الفقراء في افريقيا وآسيا لا يستطيعون الحصول علي الادوية الاساسية.
- يتلقى حوالي 20 ? من المصابين بالأيدز (سيدا) في أفريقيا عقاقير بديلة عوضا عن العلاج الحقيقي.
- يلقى اكثر من نصف الاطفال في جميع انحاء العالم حتفهم بسبب نقص التغذية.

1/9/2006


سويس انفو

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon