الحجر الأسود .. مكان من سورية ...!

  مكان في سوريا اسمه "حجر أسود"
بشار إبراهيم: المستقبل 27/8/2006
في سوريا، نادراً ما تتوجَّه الكاميرا السينمائية، (والتلفزيونية ضمناً)، باتجاهها الصحيح، أو تذهب إلى الأمكنة التي ينبغي عليها الذهاب إليها.. فمنذ أن تولّد تيار سينما المؤلف، وشاع اختراع الذاكرة الطفلية، لهذا المخرج أو ذاك. ومنذ أن تقدَّمت الفانتازيا، قبل أن تخلي المكان لصلاح الدين والحجّاج وملوك الطوائف.. أصبح من النادر الحديث عن فيلم سينمائي، أو عمل تلفزيوني، يقترب من الواقع الراهن، ويفتِّش في تلافيفه، ويفضُّ التباساته، ويدخل في تفاصيله الدقيقة، التي غالباً ما يكون من الصعب رؤيتها، إلا عبر الكاميرا.
صحيح أنه يمكن الحديث عن بعض الأعمال السينمائية والتلفزيونية السورية التي تقارب الواقع، أو تتناول بعض جوانبه، ولكنها تبقى محدودة العدد، ومحدودة الجرأة في الكشف أو الفضح، والتناول أو الاقتراب. فليس المطلوب من الكاميرا أن تمرَّ عابرة على سفوح الظواهر الاجتماعية، وحوافي القضايا الاقتصادية، وتمنحها البعض من الألوان، والقليل من الحضور.. بل نرى أن المطلوب منها أن تأخذ دور مشرط الجرَّاح، الذي يغوص في الأعماق، طلباً للشفاء، أو دور النور الكاشف الذي يضيء الجوانب المعتمة، ويضعها في بؤرة الرؤية.
في سوريا، ثمة مكان اسمه "حجر أسود"!.. ليس بعيداً عن قلب مدينة دمشق، ولا منقطع الاتصال المكاني بها.. مكان أصبح مدينة قامت في البداية على حضور النازحين من الجولان، ثم تحوّل مع تكرار السنوات إلى نموذج فذّ للسكن العشوائي، ولاستقبال القادمين من الأرياف القريبة والبعيدة، ومن الأقاصي المديدة، فصار فيه نازحون سوريون، ولاجئون فلسطينيون، وأكراد، وقرويون وريفيون من شتى أنحاء سوريا.. فضلاً عن عراقيين..
"حجر أسود".. لا علاقة له بالقداسة، بل بكل أنواع الفجاجة، من الفقر والجهل والأمية وقلة الحيلة، إلى الفوضى والضجيج والازحام المريع، وهو يضم قرابة المليون نسمة، لا يجمع بينهم إلا كونهم فائضاً اجتماعياً، غير قادر اقتصادياً، وغير فاعل ثقافياً، ويلقى الكثير من الإهمال والصدود، إلى الدرجة التي لا يعرف ساكنوه معرفة الخفايا والخبايا التي ينطوي عليها، على الرغم من حضوره المعتبر في سجلات "الأمن الجنائي"، ومخافر الشرطة، والأحداث..
في بادرة نادرة من نوعها، يجتمع الروائي خالد خليفة والمخرج نضال الدبس، بدعم من منظمة اليونيسيف، لتحقيق فيلم حمل اسم "حجر أسود"، وهو فيلم وثائقي طويل (مدته 45 دقيقة)، رُصد للدخول في عالم الحجر الأسود، الخفي والمعلن بآن، العالم الذي يمكن أن تمرَّ بقربه فلا تراه، ويمكن أن يمرّ أمامك فلا تنتبه له، فيقوم الفيلم بكشف المستور، والنطق بالمسكوت عنه، وربما هذا ما جعل فيلم "حجر أسود" قيد المنع، غير الرسمي، وغير المعلن، على عادة القرارات المفهومة والمُتوافق عليها شفاهاً، وغير المكتوبة على الورق، ولكنها قطعاً قيد التنفيذ، في كل حال!..
لا يقترب الفيلم من السياسة، ولا يأبه بالأحزاب وبرامجها، ولا ينتقد الجبهة الوطنية التقدمية، ولا يشكو من القوى القادرة سياسياً أو أمنياً أو اقتصادياً.. ولكنه يغوص في حارات الحجر الأسود، ليلتقط شخصياته التي تبدو منذ البدء باعتبارها نماذج ذات شيوع، لا تقتصر على نفسها، بل ناطقة بواقع حال يكاد يكون عاماً، على الأقل في هذا المكان، وأمثاله من أماكن السكن العشوائي، وضواحي المدن، التي ضاقت بما ومن فيها..
يخرج محمد (15 سنة)، من بيته، ويذهب إلى بيت صديقه مصطفى (14 سنة)، ليتصاحبا معاً في الطريق إلى حيث يستأجران طنبراً (عربة بدائية يجرها حصان)، ويذهبان إلى المزابل والنفايات، والحطام والردم، ويقومان بجمع قطع الحديد والنحاس والألمنيوم، وأكياس النايلون، وعلب الكرتون والقصدير الفارغة.. فهذه وسيلتهما في الحياة.
سنعرف أن محمداً لم يدخل المدرسة أبداً، في دولة واحد من أهم شعاراتها: "إلزامية التعليم". كما سنعرف أن مصطفى ترك المدرسة في الصف الرابع الإبتدائي، رغم أنف مقولات: "منع التسرُّب من المدارس"!.. ولقد تقلَّب كل منهما على أنواع من الأعمال الرخيصة، دون امتلاك حرفة، أو التمكُّن من مهنة.. وكان من الطبيعي أن يكونا دائماً على حافة الانحراف، بشتى أنواعه..
سيدخل محمد السجن، مدة شهرين ونصف، بعد أن ضرب بالسكين، ربما لأنه ثمة من حاول الاعتداء الجنسي عليه، بعد جلسة مشاهدة أفلام.. وكذلك سيدخل مصطفى السجن، إثر شجارات، كان الضرب بالسكاكين أحد مفرداتها. وسوف يتكرر دخولهما وخروجهما من سجن الأحداث القائم في "قدسيا"، دون أن يبدو عليهما أي أثر من "التهذيب والإصلاح"، المفترض أن يكون من مهمات هذا السجن!..
سيتمتع محمد ومصطفى بالكثير من الصراحة، وسيفتحان الباب أمام الكاميرا لتدخل في تفاصيل خاصة وحميمية من حياتيهما. فمحمد تحوَّل قبل الأوان إلى راعٍ لأسرته، فيما يغيب والده عاملاً في لبنان. ومصطفى صار المسؤول عن والدته التي لم تخرج من "العدة" إثر موت والده منذ شهرين فقط..
خلف كل منهما تقبع حكايات مليئة بالمرارة، والمعاناة، كما بالكفاح والجهد الدؤوب، لتحصيل لقمة العيش. أم محمد تتحدث عن الشجارات المتواصلة مع الأب، قبل أن يغادر الأسرة، تاركاً إياها في مهب رياح الفقر والعوز، بينما يستفيض مصطفى في وصف أشكال التعذيب التي كان والده يمارسها عليه، بما فيها التعذيب بالكهرباء..
من يصدق أن المجتمع السوري محشو بكل هذا الفقر والعوز، وبكل هذا العنف، وهذه الانحرافات التي تبدأ من شرب الكحول، وتعاطي المخدرات، ولا تنتهي عند أنواع مذهلة من الهلوسة، مثل شمِّ سائل التنر، أو لاصق "الشعلة"، الذي يستخدم في صناعة الأحذية، وما يرافق كل هذا من انحرافات سلوكية!..
يتمنى محمد لو أنه كبر، كما يتمنى، ويحلم لو أنه صار "دكتور"، وتمتع بالحياة.. وشقيقته الكبرى (16 سنة)، تحلم أن تدخل المدرسة، وتتمنى العمل في ما هو مفيد، مثل أن تتعلم مهنة كالخياطة، وليس العمل خادمة في البيوت، أو شاطفة أدراج.. ويبقى لها حلم أن تكون محامية أو قاضية، تدافع عن المظلومين..
ينتقل الفيلم إلى حالة أخرى، تبدأ من مسبح "الباسل"، القابض بجدرانه على شعار: "في الرياضة حياة".. ثمة صبية لا تحب اللعب مع البنات، بل مع الأولاد على الرغم من ضرب والدها لها.. وسوف تبلغ هذه الصبية بنا ذروة مؤثرة في إخبارنا بقصة شقيقها الرضيع، الذي مات اختناقاً بالحليب..
"هوياتنا أجانب.. أكراد أجانب".. يقول أحد الفتيان، ويوضح أنه يعيش من خلال البحث في النفايات على الحديد والكرتون.. و"شو الله بيسّرها". إنه لم يتلقَّ أي نوع من التعليم، وفاته هذا القطار تماماً، وسيبقى على أمّيته: "كبرنا.. وين بدنا نروح ع المدرسة"؟!.. ولا يبقى له إلا أن يحلم بتعلم مهنة: حداد، نجار، كومجي.. فالجوع كافر..
عبد الله، فتى آخر، لا يعرف كم عمره، ولم يدخل مدرسة، لا هو ولا أي من أخوته.. و"رامي" يتحدث بغمغمة مفهومة عما يحدث في البوائك: العرق، التنر، الشعلة، الحبوب، الحشيش.. اللواطة.. و"الله العليم شو بيساووا"!..
يسرى التي لم تبلغ العاشرة من عمرها، وحكايات بؤس لا تنتهي.. وتبدو جزءاً من النسيج الممتد في الفيلم، منذ بداياته، إلى قبيل نهاياته، عندما تذهب شخصيات الفيلم في رحلة إلى سوق الحميدية، والجامع الأموي.. وجلسة في مقهى، مع كاسات عصير، وأرجيلة.. ومحاولات شبه بائسة لكتابة الاسم، وكيفية التوقيع..
رامي يرفض بغضب أن يُسمَّوا "متشردين".. إنه يعتبرها إهانة، فيقول: "نحن نعمل.. صحيح نحن فقراء.. ولكننا لا نمدّ أيدينا إلى أحد".. ولكن رامي، لم ينتبه إلى أن لا أحد يمدُّ يده إليهم، ليخلِّصهم من هذا الواقع الفاجع، ولا أحد يمدّ يده إليهم، لينينير أمامهم الدروب، وهم يلجون القرن الحادي والعشرين.. لم ينتبه رامي لكل هذا.. ربما لأنه لا يعرف القراءة، وبالتالي لم يقرأ الخطط الحكومية، ولا الشعارات الاستراتيجية، ولا التصريحات المسؤولة "غير المسؤولة"..
في نهاية الرحلة، سوف يصعد الفتيان الذين عشنا معهم وقت الفيلم إلى جبل قاسيون.. من فوق سوف يطلون على دمشق، ويتقرُّون أمكنتها، ومعالمها، وتفاصيلها، ولكنهم سرعان ما يسألون بعضهم البعض: أين الحجر الأسود؟..
ينتهي الفيلم على هذا النحو الفني المعبِّر، وهو في الحقيقة فيلم جيد الصنعة، جميل على الرغم من كل الآلام التي تثيرها مشاهدته، وحكاياته، وقصصه، وشخصياته؛ شخصياته التي بدت كم هي جميلة على الرغم من بشاعة حالها، وبريئة على الرغم من تلوث سجلاتها.. هي شخصيات من دم ولحم، عامرة بالأحاسيس، وممتلئة بالأحلام، لا طموح لها إلا التمكُّن من العيش على حافة الكفاية، وبعيداً عن المذلة والمهانة، والتحقير الاجتماعي، والحرمان الاقتصادي، والنفي الثقافي.
فيلم "حجر أسود"، صوَّرته بمهارة بادية، مديرة التصوير جود كوراني، التي يمكن اعتبارها أول مديرة تصوير سينمائي في سوريا، درست التصوير في فرنسا، ونفذ المونتاج رؤوف ظاظا وشركة "بروأكشن"، الواعدة بدور هام في الانتاج الفني السوري، ووضع موسيقاه المؤثرة وسام العبنّي، وقاد المجموعة المخرج نضال الدبس بالتعاون مع الروائي خالد خليفة، ليكون هذا الفيلم نموذجاً للسينما التي ينبغي أن يحققها الشباب، وقد آن لشيوخ السينما السورية أن يتقاعدوا!..
"حجر أسود"، فيلم يليق أن يجتمع كل أصحاب الرأي والمشورة، وأصحاب السيادة والريادة، في سوريا، لمشاهدته، ولمعرفة "أي جحيم يعيش فيه الآخرون"!.. خاصة أن هؤلاء الآخرين، يكادون أن يكونوا عموم الشعب السوري.. 
 

عن كلنا شركاء

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon