لم تكن مدينة حمص غريبة علي، ولا بعيدة عني يوماً.. فأنا ابنها كما كنت وما زلت ابن طرطوس.. في حمص التي طالما لفحتني شمسها.. ولسعني بردها.. لم يكن الدبلان وحده ساحة تسكعي ..
ولا الروضة المكان الوحيد لالتقائي مع الأصدقاء ونفس الاركيلة البلدي.. أو جورة الشياح حيث حلاقي المنتخب الذي كان شاهداً على تصحر رأسي بعد أن كان عامراً بشعر كثيف لطالما حسدني عليه أقراني.. أو شارع العشاق الذي شهد أول تجربة تحرش لي بفتاة.. في محاولة يائسة للتقرب منها بعد أن أمضيت أياماً وأنا أحاول استمالتها بعينيّ العاشقتين...!! ولن أحدثكم عن نتائج تلك المحاولة حتى لا يحزننّ أحدكم عليّ..
حمص باب السباع، وباب دريب.. وبستان الديوان .. والزهرة.. وكرم شمشم .. والأرمن.. والمهاجرين "ضهر الكرّ" وعكرمة النزهة.. وعكرمة الجديدة.. ووادي الذهب.. حمص القلعة والخالدية والساعة العتيقة والوعر والقصور وطريق الشام ودوار تدمر ودوار المواصلات والمحطة.. حمص ديك الجن سيد العشاق قاطبةً.. وشاعر الندامة و الخيبة الأول.. أول قاتل مقتول في تاريخ الشعر العربي على ما أزعم.. حمص الشعر والشعراء، حيث أكثر من تسعين بالمئة ممن امتهنوا حرفة الأدب فيها، اشتهروا كشعراء وحسب... حمص الشعب الطيب الظريف الذي لا يمكن أن تتركه دون أن يعلق على ثيابك فيضٌ من ظرفه، وعلى شفتيك طيف ابتسامة صنعتها نكتة قلما تصادف حمصياً لا يتقنها.. حمص المدينة الوحيدة في العالم التي تنتج ـ تلقائياً ـ ما يسمى في لغة أهل الفن، كوميديا الموقف ، دون أية كلف إنتاجية ، فقط يكفي أن تحتك بأحدهم.. تكلمه قليلاً.. لتضحك ملئ قلبك، من نكتة أطلقها دون ادعاء.. أو تعليقٍ يعجز عنه حتى برنارد شو أو عزيز نيسين...
حمص التي لم أنقطع عنها بعد أن انتقلت بسكني إلى طرطوس، فكان لزاماً علي أن أزورها بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع، لأسباب تتعلق بطبيعة عملي..
حمص.. الشاعرة الساحرة الساخرة... التي أعشقها بكل جوارحي .. لي عليها عتب واحد فقط.. هو أنها لم تدعني يوماً لزيارة صدد.. البلدة التي تفترش مساحة من خاصرتها الجنوبية الشرقية، على بعد حوالي ستين كيلومتراً عن مركز المدينة..
ولكن ما لم تفعله الأم "حمص" قامت به البنت المدللة "صدد..."
لم يكن الأمر شخصياً.. بل في إطار فعل ثقافي اختار أهل صدد أن يطلوا من خلاله على الآخرين، كأجمل ما تكون الإطلالة.. مهرجان ثقافي بعنوان "صدد العراقة"
وجهت الدعوة إلينا في النادي السينمائي بطرطوس، لمشاركتهم ذلك المهرجان بعرض سينمائي ، وكان سرورهم بموافقتنا، كسرورنا بدعوتهم.. وبسرعة تم التنسيق مع الفنان السوري العالمي الرائع غسان مسعود، الذي لم يتردد لحظة ـ كما هي عادته دوماً ـ بالموافقة على الحضور مع الفيلم العالمي وادي الذئاب ـ إنتاج مشترك، تركي كندي ـ وقد مثل الفنان غسان مسعود أحد الأدوار الرئيسية فيه..
وصلنا "زميلي في مجلس إدارة النادي، فيصل ملحم، وبشرى ، وسعيد ، وأنا" إلى صدد في حالي الخامسة والنصف من مساء يوم السبت الواقع في 12/آب/2006 بعد رحلة استمرت لساعتين ونصف، كنا خلالها يرسم كل منا في مخيلته تصوراً للمكان، وللناس ، وشكل الاستقبال، وطريقة التعامل، وكنا نتحدث مع بعضنا، حول ضرورة أن نظهر في أفضل صورة ممكنة، أمام أناس لم نتعرف عليهم بعد، ولا نعرف بعضهم إلا لماماً.. لنكتشف بعيد وصولنا بقليل، أنه ليس علينا سوى أن نكون نحن، كما اعتدنا أن نكون بين أهلنا وأصدقائنا.. ففي صدد، ومنذ اللحظة الأولى تكتشف أنك مع أناس تعرفهم منذ زمن بعيد.. هم في الحقيقة أكثر من أهل.. وليسوا أقل من أصدقاء.. ومع الأهل والأصدقاء، ليس ثمة من حاجة للتجمل والتزين..
فور وصولنا.. توجهنا إلى إحدى الصالات، حيث كانت الأمسية الشعرية على وشك أن تبدأ..
لم نستطع ـ فيصل وأنا ـ إكمال الأمسية، فقد كان علينا أن نحضّر للعرض في ساحة كنيسة القرية.. وهناك، لم يكن أحد من الموجودين يعرفنا، ولا نعرف أحداً.. ولكن هذا لم يمنعنا ـ مع توفر كل هذا الكم من الطيب الفطري لديهم ـ من طلب كل ما احتجناه من متطلبات العرض من هؤلاء، ولشدة ما أدهشتني سرعتهم في تلبية ما طلبناه، دونما تذمر أو تلكؤ، لدرجة بتنا معها نحسبهم من لجنة المهرجان، ولنكتشف أنهم من أهل القرية وحسب، ولا علاقة لمعظمهم بالأمر سوى أنهم يعتبرون أنفسهم مضيفين للمهرجان وضيوفه.. وللضيف ـ في عرفهم ـ أن يطلب، وما على المضيف سوى تلبية الطلب، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، أشعرنا الجميع أنهم جميعاً معنيون بنجاح هذه التظاهرة، بل وتكريسها كتقليد يحرصون على أن يستمر و يترسخ في قادمات الأيام .. وهذا ما تأكد لدي قبل بدء عرض الفيلم بقليل، حيث خيل إلي أن صدد كلها ـ بشبابها وشيبها وصغارها ـ أصبحت في ساحة الكنيسة، بانتظار بدء العرض، وكان حجم الحضور في الأمسية الشعرية، قد أثار عجبي وإعجابي في آن معاً..
ينتهي العرض، ليطل غسان مسعود على الناس وسط عاصفة من التصفيق استمرت حوالي عشر دقائق، وليبدأ بعدها الحوار المفتوح معه، والذي كان مفتوحاً، بقدر ما كان منظماً، دونما حاجة لمن ينظمه، فالجميع يحترم الجميع، وكم كانت دهشتي وإعجابي شديدين، بالمستوى الفكري الراقي الذي أوحت به الأسئلة والمداخلات التي طرحت، ما يدلل على السوية الثقافية والمعرفية العالية، التي يتمتع بها أهل تلك البلدة بمختلف شرائحهم وأعمارهم، وهذا وحده يفسر معنى أن يسمى المهرجان بمهرجان صدد العراقة، فضلاً عن عراقة الطيب والنبل والكرم...
انتهى الوقت المخصص للحوار، دون أن ينتهي ، أو يكتمل الحوار، فبقي معلقاً حتى إشعارٍ آخر.. هكذا قرأت في العيون والأوجه التي لم يتسن لأصحابها أن يطرحوا سؤالاً أو وجهة نظر.. لم يكن هناك تذمر ولا انزعاج، وإن أبدى الجميع ـ بما فيهم الفنان غسان مسعود ـ رغبتهم بتجدد اللقاء، وتخصيص وقت أطول للحوار، في المرة المقبلة، التي أراها أكيدة.. وغير بعيدة..
من ساحة الكنيسة.. توجهنا ـ كما أراد لنا مضيفونا ـ إلى مطعم القرية، لنجد في ذلك المكان الأنيق، والبعيد عن البهرجة والتكلف، جميع أهل القرية ـ أو هكذا خيل إلي ـ بانتظارنا... تخيلوا.. الجميع في الأمسية الشعرية... والجميع في العرض السينمائي.. وهاهم.. جميعهم في المطعم، تتقدمهم فرقة موسيقية.. وشاعر زجل يرحب بضيوف صدد ويوجه تحية أهلها للشعب اللبناني الصامد في وجه العدوان الصهيوني الغاشم، ولمقاومته البطلة التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ومرغت بتراب الجنوب.. رأس أولمرت وأعوانه و داعميه...
وهناك.. في ذلك المكان، يعلن لنا ذلك الشاعر، عن ولادة عيد ـ أظنه اختراع صدّي بامتياز ـ اسمه عيد المغتربين، الذي حدد له يوم الثاني عشر من آب كل عام، يوماً استثنائياً لأهل صدد، يحتفلون فيه بلقاء المغتربين مع أهلهم المقيمين.. ومنّا ـ عن أهل صدد ـ إلى وزارة المغتربين؟!!!
لعله من أهم الأشياء التي تلفت الانتباه، لدى هؤلاء الناس، هو ولعهم بقريتهم، وحرصهم على فعل شيء لها، ومن أجلها، دونما أدنى حد من الأنانية وحب الظهور.. فلا ترى أحداً منهم يزاود أو يتباهى أو يحاول الاستئثار بشيء دون الآخرين، ولا من يدّعي، أو يتظاهر أو يتملص من مسؤولية.. ولا من يلقي لومه على أحد.. مع هذا الحرص الشديد على التواضع، والتعلم، ونكران الذات.. وكم دهشت عندما قال لي الدكتور طارق السبعة، وهو المقيم منذ طفولته في حمص، ويعمل حالياً أستاذاً في جامعتها ـ وكنت برفقته في طريقنا لاستقبال الفنان غسان مسعود على طريق عام دمشق حمص ـ بأنه ليس من اللجنة المنظمة، ولما سألته عن سر اهتمامه قال: المهرجان مهرجان صدد ، وصدد كلها معنية ومهتمة.. (فيك تعتبر صدد كلها لجنة منظمة!!)
عندها فقط، تذكرت الشاعر الداغستاني العظيم رسول حمزاتوف الذي يقول ما معناه: (لا تستطيع ـ كداغستاني ـ أن تكون سوفييتياً حقيقياً مخلصاً، إذا لم تكن داغستانياً مخلصاً أولاً)..
صدد العراقة..
شكراً لك.. شكراً جزيلاً.. لن أنساك أبداً.. أعدك...!!!
خاص: "نساء سورية"
خاص: "نساء سورية"
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon