نساء صغيرات ولكن! زيارة خاصة إلى الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة

في كل بقعة من العالم وفي أي زمان، تقام مهرجانات ظلامية تستباح فيها الإنسانية وتهدر أسباب وجودها، وتغل الروح بأصفاد الذل والعجز، ويزداد عدد المذلين والمهانين باطراد سريع.

ولأن القيمين على هذه الانتهاكات، يحتاجون دوماً إلى ملء  الثغرات التي يفرغها الحقد في النفوس الضعيفة، التي تترافق عادة مع نقائص شتى كالحسد والضغينة، لذا فهم يتصيدون ويشترون أضحيات بشرية يسقطون عليها كل أحاسيسهم الدونية المريضة، فيهوون معهم وبهم إلى أصقاع متردية من الجحيم البهيمي.
وتظل النساء الإسقاط الأمثل لهؤلاء والاختيار الأسهل، بسبب عوامل بيولوجية شكلتها الطبيعة وكرستها النظم الأبوية. وتأتي النساء الصغيرات اللواتي يراوحن بين عتبات الطفولة والراشدين، في قائمة المرغوبات لانتهاك كهذا، وتساعد التربية الجائرة في  الصغر على ضمان السكوت والخضوع لتسويق القبول بكل أنواع الذل والهوان وامتهان الكرامة.
ومع أن مقولة المسيح عليه السلام : (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)، تختصر الدفاعات التي يترصدها خانقو الحياة ومدنسو النفوس والأبدان.إلا أن الواقع شيء مختلف تماماً.فالوحوش الآدمية بعد أن تنتهك قدسية الحياة عندهن، تلقي عليهن لعنة الإثم والخطيئة لتدمغ حياتهن بوصمة العار الأبدي.
ونتساءل: أهو قدرهن المرصود ومصيرهن المحتوم ؟ قد يكون الجواب نعم، وربما لا.إذ إن ما يرتبط بالمصير الذاتي للفرد الواحد متعلق حتماً بمنظومة المجتمع الكلية ونصيبها الفعلي من المسؤولية تجاه أفرادها، وهذا ما نعرفه باسم حقوق المواطنة.
وخوفاً من الترهل الذي قد يصيب الإدارات القديمة ومنعاً من الإغراق في التعنيف، برزت الحاجة الملحة إلى تجديد الطاقات الداخلية لبث الحيوية في الجهاز الإداري القديم وتحويل المنهج الإصلاحي من دوره التجريمي القصاصي البحت، إلى نوع تأديبي لا ينفي صفة العقوبة بل يضيف إليها البعد الإنساني الذي يأخذ بالحسبان الحاجة الملحة إلى بث طاقة الحب والود في النفوس الصغيرة التي تعرضت للعطب وترقيع ما يمكن، رغم استحالة ذلك في أحيان كثيرة.فهبة الحياة أثمن من أن تستهلك في الدوران ضمن حلقات مغلقة، معيقة ومهدمة.
ومن هذه النقطة بالذات انطلقت تجربة العمل المشترك بين القطاعين العام والخاص لتحقيق التكامل المؤسساتي الهادف إلى إصلاح الفرد ومساعدته على استعادة توازنه ووضعه الإنساني السوي ضمن المجتمع.وعلى هذا الأساس مُنحت الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة، الصلاحيات لتفعيل عقد الشراكة الإدارية مع معهد الفتيات الإصلاحي الحكومي.

الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة
جاء تأسيس هذه الجمعية في خريف عام 2004 قامت به مجموعة من الناشطين المؤمنين بدور المرأة الأساسي في المجتمع، وكمبادرة جديدة ضمن الجهود الوطنية التي تبذل من أجل جعل المرأة العربية السورية شريكاً حقيقياً للرجل في عملية تنمية المجتمع وازدهاره، من أجل غد أفضل لنا ولأجيالنا القادمة.

رؤية الجمعية
شعار الجمعية هو (امرأة سورية قادرة على المساهمة في تنمية المجتمع وتطويره) يتجسد بشكل فعلي من خلال السعي الحثيث للارتفاع بمستوى نضوج البناء الاجتماعي العام ومستوى الوعي لدى المجتمع في تعديل الاتجاهات السلبية نحو المرأة، وتكوين اتجاهات مجتمعية إيجابية جديدة ترفع مكانة المرأة في المجتمع وتمكنها من حاجاتها وحقوقها.
ومع أن التجربة المشتركة بين القطاعين العام والخاص ما تزال في بداياتها، إذ لم يمض عليها سوى بضعة شهور، إلا أن هناك بوادر إيجابية فعلية واضحة بدأت تلون السمة الحياتية العامة داخل المعهد.فمظاهر العدائية والكراهية المبنية على سوء الظن خفت، والابتسامات المطمئنة بدأت تأخذ طريقها إلى الوجوه الشابة، والتعامل بينهن بدأ يأخذ جانباً أقل عنفاً من السابق، وبعضهن عدن إلى مقاعد الدراسة وأخريات ينتظرن فرصة لتعلم مهنة يدوية عندما يتاح استقدام معلمة مختصة، بينما حظيت فتيات بحق الاهتمام ببوادر جانب إبداعي بدأ يعلن عن نفسه. والأهم من كل ذلك هو الرغبة الحقيقية في تقبل النصح والإرشاد الأخلاقي والنفسي.

شذرات من حياتهن
- على قصاصات ورقية رسمت ابتهاجها بالحياة، بفرحة الوجود والتخلص من رعب القيود الحديدية وجبروت الألم المفروض.
- بكتابات شفافة تلونها المرارة السقيمة تناضل لانتشال بذرة الأمل في نفسها محاولة تجاوز أحلام كابوسية مفزعة أرّقتها ليلاً ونهاراً.أحلام يلمع فيها منشار معدني ،يهدد باختراقها من كل مكان، تمسكه يد أب ظالم أعمته الهوة السوداء في قرارة نفسه عن التمييز بين عبدته /ابنته ،وكيس (البوكس) الذي اعتاد الملاكمون إفراغ قوتهم فيه.
- قتلت شقيقتها ذات الأعوام الأربعة أمام عينيها ضرباً، فلم تعد تحتمل القسوة المفرطة فهربت واستسلمت لأول وعد معسول بالزواج، وكادت أن تقارب السعادة العائلية لولا الوشاية الحاقدة.
- فقط لأننا نساء صغيرات مهيضات الجناح، أبقونا دوماً جالسات جانباً ونحن نتفرج عليهم وهم يلتهمون طعامهم المليء باللحوم والدجاج.
- من قسوة منزلية مغالية في شدتها انتقلت إلى اضطهاد مماثل في منزل زوج سيئ الخلق، وحين فكرت بالاعتراض وهربت طلباً للحماية ألقى بوجهها تهمة ملفقة بالسرقة والدعارة مع أنها حامل بطفله!
- نامت في الشوارع بعد أن عجزت عن تحمل المزيد من الظلم والقسوة المفرطة من قبل أب امتهن  العمل بتجارة المخدرات ونسي أثناء ذلك ماذا يمكن أن تعني كلمة الأبوة والحماية.
- في لحظة منسية من الزمن استسلمت لنوم عميق بعد يقظة متواصلة استمرت ثلاثة أيام ولياليها أملاً بأن تحمي عفتها من التدنيس.وفي تلك اللحظة بالذات نجح في انتهاكها.رغم أنها قاومت خاطفها وتهديده الذي أصر من خلاله على تجريدها من حقوقها وكرامة وجودها.
- بيعتا كالإماء في سوق الجواري إلى تجار لذة امتهنوا بيع اللحم البشري، رغم أن إحداهما طفلة لم تتجاوز الحادية عشرة من العمر. وتم ذلك تحت ذريعة حرب الإخوة الحالية في الجوار.
- حين غرر بها شاب فاسق بمعسول الكلام استسلمت لوعوده وحملت منه، ولكنها عندما بوغتت بقدوم الشرطة إثر وشاية، ألقت التهمة على شقيقها خوفاً من بطشه!
- إفشال الخطوبة عدة مرات جعلها تقرر الهرب مفترضة حرية زينت لها الانزياح عن قيود العناية والاهتمام الأسري.
- معظمهن نشأن ضمن أسر مفككة، إما بالطلاق أو بالانحلال الأخلاقي، مما انعكس بالتالي على شكل سوء المعاملة وعدم الاهتمام واللامبالاة.
مثلث الفقر الجهل العنف مازال إلى الآن يشكل سيفاً مسلطاً على المرأة السورية منذ يفاعتها الأولى حتى وفاتها.فهو يفرض تهديداته في أية لحظة بأشكال متنوعة، تتناسب دوماً مع خصوصية كل حالة مما يفتح الباب واسعاً أمام الخوف كعنصر خطير في استجرار الضحية وإطباق الحصار عليها.وهنا يتبدى الكذب سلاحاً تتوهم فيه الضحية خلاصاً مؤقتاً وعنصراً للحماية دون أن تدري أنها تشد الأنشوطة حول رقبتها تدريجياً.
تحد كبير تراهن عليه الجمعية الوطنية لتطوير المرأة، فالقضية شائكة وتتطلب بذل الكثير من الجهود من توفير للأمان للفتيات، محو آثار الإذلال النفسي والجسدي وتعبئة النفوس الغضة بطاقة إيجابية مطهرة تمهيداً للعودة الحتمية إلى المجتمع، أي ما يسمى بإعادة التأهيل العاطفي، كما تبين مديرة العلاقات العامة للجمعية يمن أبي الحسن.فهي تشدد على أهمية بث المحبة بين الفتيات واستعادة الحياة الطبيعية التي تذكر بالأسر الحقيقية، وفيها الشعور مجدداً بحياة الطالبات وحيوية الجو الدراسي الذي حرمن منه.
والأهم كما تضيف هو تدريبهن على التخلص تدريجياً من عادة الكذب الدفاعية الهجومية.وبدلاً من ذلك يتم التركيز على إشاعة جو الثقة والمحبة الإنسانية.
وجاءت الرحلة الترفيهية الأخيرة التي قاموا بها مؤخراً لتشكل إنجازاً صغيراً وبسيطاً يعيد للفتيات إحساسهن بإنسانيتهن المستلبة.فهن لسن أدوات يعبث بها وترمى عند انتهاء الاستخدام.
ويأتي انتداب الجمعية لكادر علاجي مؤلف من طبيب نفساني واختصاصية ليتفق تماماً مع خطتها في إعادة الحس الحياتي والإنساني المفتقد.
يتضمن الأسلوب العلاجي النفسي كما تبين الاختصاصية النفسية أسمية مرشد، التهدئة النفسية من العنف، التثقيف الجنسي ـ تخفيف السلوك العدواني، وانتهاج أسلوب المحبة موقفاً سلوكياً يومياً ينمي عند الفتيات التعامل الإيجابي والتسامح بين بعضهن وتمهيداً لدخولهن المجتمع مجدداً.
في الختام نتمنى بقوة النجاح لهذه التجربة الوليدة، ليس فقط لأجل النساء الصغيرات اللواتي جمح بهن الطريق وكبا في لحظة غفلن فيها عن أنفسهن، فغفلت عنهن الحياة، بل لأجلنا جميعاً، لأجل مجتمع سوي ناضج تُحترم فيه قيمة الإنسان وتعطى كلمة مواطن أبعادها الحقيقية.

جينا سلطان: (زيارة خاصة إلى الجمعية الوطنية لتطوير دور المرأة)


تنشر بالتعاون مع جريدة النور- العدد 267

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon