المحكمة تنقض الحكم.. لأن المغدورة طفلة وذووها رعاة غنم!

مريم، اسم لزهرة من زهرات هذا الوطن، طفلة صغيرة لم تتجاوز ربيعها الخامس، تتعرض لحادث دهس سيارة أودى بحياتها.

 يدعي أهلها على مالك السيارة والسائق والمؤسسة العامة السورية للتأمين، لدى إحدى محاكم البداية، طالبين التعويض عن وفاة ابنتهم. تنظر المحكمة في الدعوى بعد قبولها، وتجري الخبرة الفنية اللازمة، وتحكم لذوي المغدورة بتعويض مقداره 450 ألف ل.س، يحسم منه 10 لقاء نسبة المسؤولية التي تتحملها مريم، فيصبح صافي التعويض المتوجب الدفع على المؤسسة العامة السورية للتأمين 405 آلاف ل.س.
يستأنف طرفا الدعوى الحكم الصادر عن محكمة البداية لدى إحدى محاكم الاستئناف، فالمؤسسة السورية للتأمين ترى أن مبلغ التعويض الذي حكمت به محكمة البداية مرتفع، وأن نسبة المسؤولية المقدرة التي تتحملها المغدورة هي أكثر مما هو مقدر، والطرف الآخر يطالب برفع التعويض. وبعد استعراض المحكمة للاستئناف المقدم من الطرفين تصدر قرارها على النحو التالي:
- إلزام المؤسسة العامة السورية للتأمين بدفع مبلغ مقداره 315 ألف ل.س تعويضاً لوفاة مريم، وإلزام المؤسسة المذكورة بدفع فائدة مقدرها 4% عن المبلغ المحكوم به. والقرار قابل للطعن بطريقة النقض، تطعن المؤسسة العامة السورية للتأمين بالقرار السابق لدى محكمة النقض، لأنها ترى أن مبلغ التعويض مازال مرتفعاً. وتؤكد المسؤولية الكبيرة للمغدورة في الحادث التي تتجاوز النسبة التي حددتها الخبرة الفنية. وبعد دراسة القضية وقرار الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف، تأخذ المحكمة قراراً بنقض الحكم السابق للأسباب والحيثيات التالية:
- التعويض المحكوم به للجهة المدعية يفوق حدود جبر الضرر.
- التعويض يخرج عن حدود المألوف وما درجت عليه المحكمة في القضايا المماثلة.
- لم تبين المحكمة أحقية الجهة المدعية بهذا القدر الكبير من التعويض.
- المغدورة لم تتجاوز الخامسة من عمرها، وذووها رعاة غنم ولا تحمل أي ميزة علمية أو اجتماعية، مما اقتضى نقض القرار المطعون فيه لهذه الناحية.
إنني بوصفي مواطناً من هذا الشعب الذي تصدر الأحكام القضائية باسمه، مع استقلالية القضاء كسلطة واحترام القرارات التي تصدر عنها.
ولكنني عندما قرأت القرار الصادر عن محكمة النقض، شعرت بغصة كبيرة، ناجمة عن السبب الأخير الذي ذكرته المحكمة، وإذا كان هناك عيب ما في القرار، فمسؤوليته تتحملها الهيئة التي صدر عنها الحكم.
فالحيثية الأخيرة أرى أنها من حيث لا تدري ترسي أسساً للتفرقة بين المواطنين. فالإنسان كقيمة بالمطلق هو إنسان، حتى ولو كان جنيناً في بطن أمه، والمحكمة أدرى بالحقوق التي رتبتها الأنظمة والقوانين لهذا الجنين، أما أن يؤخذ عمر الإنسان في تقدير التعويض عن حياته فلا مسوغ لذلك. فماذا لو كان الشخص المغدور معمراً تجاوز الثمانين عاماً، هل نقول إنه عاش حياته ولم يبق له من العمر ما يستحق التعويض؟ وهل يعيب المغدورة أن ذويها من رعاة الغنم؟ هل عواطف هؤلاء الرعاة تجاه أبنائهم تختلف عن عواطف غيرهم من بقية فئات المجتمع؟ ومن أين يتأتى لطفلة في الخامسة من عمرها أن تحوز على مزايا علمية واجتماعية؟ إن البشرية ناضلت منذ آلاف السنين لتحقيق العدالة والمساواة، فهل جاءت الحيثية الأخيرة في إطار المساواة بين المواطنين، أم أنها تؤسس للتمييز بين المواطنين على خلفية مكانتهم الاجتماعية؟
هل كان قرار محكمة النقض منسجماً مع روح القانون، ولاسيما أن القرارات الصادرة عن هذه المحكمة يجب أن تكون الأكثر انسجاماً وتطابقاً مع القانون بحكم موقع هذه المحكمة في سلم القضاء؟
والسؤال الأخير: إذا أمكن عرض هذا القرار على المواطنين الذين صدر باسمهم، فكم ستكون نسبة المؤيدين له؟

محمد الفدعوس- (المحكمة تنقض الحكم.. لأن المغدورة طفلة وذووها رعاة غنم!)


جريدة النور (8/11/2006)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon