ما أثاره مشروع قانون سوري جديد للأحوال الشخصية من الغضب والاستنكار والاستهجان قليل جداً، لأن الألغام التي يحفل بها هذا المشروع أخطر مما نتصور على مستقبل المجتمع السوري،
ومع ذلك لا بد من القول إن ما حصل من حراك سواء على الصعيد الأهلي أو المؤسسات الحكومية بغض النظر عن المؤسسات الدينية، لرفض هذا المشروع يعد بحد ذاته أمراً ايجابياً، إذ فتح حواراً واسعاً حول بنود القانون، ينطلق من الغيرة على الوحدة الوطنية باعتبارها خطاً أحمر، غير مسموح المساس بها. فقد كان هذا المشروع بالصيغة وبالطريقة التي سرب من خلالها إلى الرأي العام أشبه بقنبلة موقوتة، استحق بياناً شديد اللهجة من مرصد نساء سوريا، وصف القانون بأنه "مقدمة لتخريب سوريا من الداخل" وأن الذين وقفوا وراء المشروع لم يجدوا "أفضل من العمل في الظلام، تحت مسمى لجنة "سرية" تم تشكيلها بقرار من رئاسة مجلس الوزراء السورية رقم "2437 تاريخ 2007/6/7"، ليخرجوا علينا بما سموه "مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد"، أما اسمه الحقيقي، فهو هدفه غير المعلن: "مشروع قانون تدمير الدولة الحديثة السورية، وإثارة الفتنة الطائفية، وتحقير المرأة، واغتصاب الطفلات"، عبر إلغاء مفهوم المواطنة إلغاء كلياً، وإحلال مفهوم "الذكر: الناكح، والأنثى: المنكوحة"، وإحلال مفهوم الطائفة: مسلم سني "مالكي، حنفي"... وشيعي، وعلوي، ودرزي، ثم المسيحي "كاثوليكي، وبروتستني"... فاليهودي... محل مفهوم المواطن والمواطنة! وربما لو أن الحكومة قامت بالإعداد لهذا المشروع علانية، ما أثارت كل ذلك الاستنكار والمخاوف والارتياب، بخاصة وأن هناك سابقة في هذا الشأن لم تزل موضع حيرة وتساؤل وهي تمرير قانون 30 للعام 2006 الخاص بالطائفة الكاثوليكية، والذي لم يدر أحد كيف صيغ في غفلة عن المواطنين الكاثوليك أنفسهم اللهم سوى أرباب الكنيسة، وجرى فرض العمل به تحت جنح الظلام، وبات المواطن السوري "الكاثوليكي"، يعامل معاملة تختلف عن معاملة المواطن السوري، إذ تم توسيع سلطات الكنيسة وتدخلاتها في أمور الدنيا لا الدين. ناهيك بالانعكاسات السلبية لوجود هذا القانون الذي بلا شك يشجع باقي الطوائف على تعدد مذاهبها للمطالبة بقوانين خاصة بها!! هل من المعقول بعد عقود من النظام العلماني وإلغاء الطائفية نعود إلى ملل ما قبل المرحلة العثمانية؟! ترى ما المشكلات الاجتماعية الضاغطة التي دعت إلى تمرير قانون كهذا وبالسر، وفرضه كأمر واقع؟! لن نقول إنها مؤامرة على الوحدة الوطنية، كما رأى كل من عجز عن إيجاد مبرر لصياغة قانون متخلف عن القانون المعمول به، ولن نقول إن السبب هو الجهل أو سوء التقدير، أو حتى استغلال تيارات معينة فرصة الحاجة لتطوير القانون لتمرير رؤية متطرفة، تعيد إلى التداول مصطلحات تنطوي على تمييز طائفي كـ"الذمي والكتابي"... وقانون يجافي المعاهدات الدولية، وينعش العمل بالحسبة ومحاسبة المرتد... الخ، من مبادئ تجنبها القانون الحالي المعمول به، وجنب المجتمع كثيراً من القضايا والمشاكل والصراعات، والتي تعاني منها الآن مجتمعات عربية أخرى تستخدم فيها لأهداف سياسية معروفة. سنفترض وبكل حسن نية أن اللجنة التي صاغت هذا المشروع، أعادت تأصيل القانون المعمول به وفق الشريعة الإسلامية، وسدت "الثغرات" التي فيه من جانب تجاهل القانون الحالي لكثير من التفاصيل كالحسبة وحكم المرتد وغيرها في حكم الذمي والكتابي... لكن نسأل ترى لو أن اللجنة ضمت ممثلين عن الأديان والطوائف الأخرى، هل كان المشروع سيخرج بأفضل مما خرج به؟ يشك في ذلك لأنه من الصعب، بل من المستحيل وضع قانون يعالج الاختلافات بين الأديان والمذاهب والملل، لذلك فإن أي حل لا بد له من النأي عن الأديان في اتجاه قانون مدني يستند إلى مبدأ المواطَنة. وبالمناسبة، حول طاولة حوار دعت إليها أسرة تحرير موقع "سوريا الغد" الالكتروني، ناقشت مجموعة محدودة من المحامين والإعلاميين هذا الموضوع، وهناك من رأى أن القانون الحالي بحاجة إلى تدارك بعض النواقص لا إلى وضع قانون جديد. إلا أن الآراء أجمعت على صعوبة أو استحالة وضع قانون للأحوال الشخصية يراعي الطوائف والملل كافة للمواطنين السوريين، وتم اقتراح أن يكون هناك قانون مدني للأحوال الشخصية يعلو على الطوائف، على غرار القوانين المدنية المعمول بها في الدول المتقدمة، على أن يكون العمل به اختيارياً للأفراد، ومن شأنه أن يشكل تراكماً يؤسس لانصهار الأطياف كافة في بوتقة المواطنة، وفي الوقت ذاته يكون منفذاً لحل كل القضايا والمشاكل الناجمة عن اختلاف الدين أو النواقص في قوانين الأحوال الشخصية الخاصة. أي بمعنى آخر يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وعدم التعدي على سلطات المؤسسات الدينية وعدم السماح لهذه المؤسسات بالتسلل إلى السلطة المدنية. قد يكون هذا حلاً مثالياً... لكن لا مناص من الأحلام حتى لو كانت حلم إبليس بالجنة، من ناحية تطوير القانون الحالي، لأن ما يخشى منه أن يكون قد تم تجميد مشروع القانون الجديد كما علم من أشخاص مطلعين على خفايا إعداد المشروع، بما تعنيه كلمة تجميد من تأجيل أو عدول عن تطوير القانون الحالي، وبقاء الأمور على ما هي عليه، سيما وتجربتنا الراهنة في تغيير القوانين أثبتت إصابتها بالحول، وبدل التقدم إلى الأمام، تقذف البلد مئة سنة إلى الخلف على أقل تقدير، وقانون المطبوعات مثال بسيط، فبدل حل المشاكل القائمة فيه أضيفت إليه سلة مشكلات جديدة، بحيث تبقى الحكومة تتسلى وتضيع الوقت في تكليف لجان وعقد اجتماعات وتطيير تصريحات خلبية إلى ما شاء الله دون كلل أو ملل. لذا لا مناص للحملات التي ترفض تمرير مشروع القانون الجديد للأحوال الشخصية، أن تقرن رفضها بمطالبة دولتنا العلمانية بوضع قانون مدني معاصر يكرس الوحدة الوطنية، على أن تستلهم روحه من مبدأ المواطَنة والدين لله والوطن للجميع، كي تستقيم أحوالنا الشخصية المتعثرة.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon