وأخيراً.. مسودة قانون للأحوال الشخصية

نقطتان إيجابيتان للحديث عن نصف الكأس الملآن: الأولى فكرة تقديم قانون واحد لكل السوريين، والثانية الإقرار بالحاجة إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية السوري.
ولكن هاتين النقطتين بالضبط كانتا المدخل للجنة الغامضة التي قامت بإعداد مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد وهي اللجنة التي شكلت بالقرار الوزاري تاريخ 7/6/2007 والتزمت التعتيم الكامل على أعمالها وأدائها حتى أنجزت مسودة القانون المذكور في 9/4/2009 وتم توجيهه إلى عدد من الجهات ذات الاختصاص والصلة وبدأ الأمر بالتالي يأخذ أبعاده المرعبة على مستقبل الحياة الاجتماعية في سوريا.

نحتاج بالفعل إلى قانون أحوال شخصية جديد يطبق على كل السوريين فوحدة التشريع صورة لوحدة الوطن، ولكن ذلك لا يجوز أن يتم أبداً بدون دراسة وتمحيص وإقرار من أصحاب المصلحة الحقيقية في هذا الشأن، وهم الذين أقر لهم القانون في السابق قوانينهم الخاصة، وذلك وفق تقاليد برلمانية معروفة، وعلينا أن نناقشهم فيها ونحقق إدماجهم في القانون الموحد بالآلية الديمقراطية نفسها.

نحتاج بالفعل إلى قانون أحوال شخصية يعالج ثغرة تزويج الصغار التي تنتج الكوارث في الحياة الاجتماعية وتحول النكاح الذي جعله الله نظاماً للحياة في الأرض إلى عبث يتلهى به الصغار ويتفرج عليهم الآباء، وأحياناً كثيرة يتكسبون منه دون أدنى مسؤولية.
ولكن القانون الجديد فتح مزيداً من الأبواب لتزويج الصغار، وهذه المرة إذا ادعى الصغير البلوغ لدى القاضي فإنه يطلب من الأبوين تزويجه، بل إن القاضي يزوج الفتاة رغماً عن والديها إذا بلغت السابعة عشرة وطلبت تدخل القاضي؟

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية يمنح المرأة حقها في التعليم كما فعلت شريعة اقرأ حين نصت على وجوب تحصيل التعليم قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولكن مسودة القانون الجديد جعلت التعليم كله مرهوناً برغبة الزوج ومزاجه!

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية يعالج الظلم الواقع على المرأة جراء انجراف الزوج وراء غرائزه وتورطه بزواج آخر، ولكن القانون الجديد منح المرأة حق اشتراط عدم التزوج عليها، وهو تقدم مهم ولكن لا تحسدونا عليه، لأن القانون يصرح بأن هذا الشرط ليس ملزماً للزوج!! وما قيمة تعهد لا يلزم صاحبه، ولماذا نكذب على أنفسنا ونمنح المرأة حق الاشتراط ثم لا نلزمه حق الوفاء بما التزم؟ ومع ذلك فإن مسودة القانون الجديد منحتها فقط حق طلب الفسخ وما يليه من دمار وكوارث على سبيل التعويض عنها!! وأي تعويض أقسى من خراب البيوت!! ثم يبارك عمل الشقي الذي جرى وراء لذائذه حتى دمر أسرته وبيته!

نحتاج إلى قانون أحوال شخصية ينصف الأطفال حين تقع محنة الطلاق فيوفر لهم عبر إلزام الزوج وعبر مسؤولية الدولة وصندوق التكافل فيها حياة كريمة هادئة تعوضهم ما حرموه من حنان الوالدين، ولكن مشروع القانون في مواده ال665 لم يتسع لمادة تنصف هؤلاء الأطفال أكثر من تقدير القاضي ليساره وإعساره، وما أسهل أن يثبت المطلق إفلاسه وبؤسه، ومعنى ذلك العودة إلى رقم 800 ل.س للولد شهرياً كما كان سائداً، وهو فقط ما تلزم الدولة باستكماله إن ثبت عجز الزوج!! وإن توفر متبرع بالحضانة فقد اختار القانون التوفير على خزانة الدولة أيضاً وألزم الأم بدفع الولد إلى المتبرع أو إمساكه بدون عوض!!  وحتى هذا المبلغ الزهيد فإنه يسقط إذا رغب المحضون أن يبقى عند أمه بعد الثالثة عشرة.

نحتاج إلى قانون يمكن المرأة من العمل والسفر والدراسة، ويحقق الحلم الإسلامي الكبير أن تسير الظعينة من الحيرة إلى صنعاء تعمل وتكسب وتتجر وتتعلم لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها، وليس إلى قانون يشترط على المرأة حتى في أرض الوطن وجود محرم في المدينة التي تعمل أو تدرس فيها وإلا اعتبرت إقامتها إثماً وحراماً وعملاً غير قانوني!!
ولست أدري هل ستعيد الدولة حساباتها وتشترط في كل إعلان عن عمل أن يكون للمرأة محرم في البلد الذي ستعين فيه؟

ولكن أخطر ما في قانون الأحوال الشخصية الجديد هو بناؤه للعلاقات الأسرية بين أفراد المجتمع على أساس من أحكام الردة، وأحكام الردة دقيقة وخطيرة في الشريعة، ويكاد الفقهاء يتفقون على أن حكم المرتد القتل، وهذا الحكم الشديد هو المنصوص عليه في كتب الفقهاء كافة، ولكن أدنى دراسة لأحكام الردة تجعلك تتفهم ما قاله المفسرون والفقهاء الذين نصوا بأمانة ومسؤولية أن الردة هي كفر المرتد بالإسلام ولحاقه بدار الحرب، وهذا بالضبط هو حال المرتدين زمن الرسول كمقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح الذين كانوا حول الرسول ثم هربوا في الظلام ولحقوا بكفار قريش وباعوا أسرار أمتهم ونبيهم لعدوهم، ثم جاؤوا مع الجيوش الغازية من الكفار يدلونهم على عورات المسلمين ويكيدون للإسلام وأهله.

 هذه هي الردة التي جرمها الإسلام، وهي تستلزم أقسى العقاب في موقف يفهمه كل عقلاء الأرض، وفي واقعنا المعاصر فإن أوضح مثال للردة هو الطيار الخائن الذي باع وطنه وركب طائرته ونزل في تل أبيب قبل عشر سنوات، ولا جزاء للخائن أقل من القتل وهدر الدم!

ولكن مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد تبسط سيف الردة في عقد الزواج على عنق الطرفين، وتحكم بوجوب إنفاذ حد الردة على الرجل والمرأة حين يختار أي منهما أن يقترب من الآخر اعتقادياً إلى منطقة وسطى يتم فيها الإيمان بالله واحترام أنبيائه دون نسخ دين بدين أو إبطال شريعة بشريعة، على أساس النص القرآني إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
واللجنة التي أعدت مسودة القانون تنص على تطبيق بعض أحكام الردة، وهي هنا التفريق بين الزوجين بإجبارهما على الطلاق، وهدر المال حيث ينقطع التوارث لاختلاف الملة، ولكنها (مكتورة الخير) لم تنص على تطبيق الحكم الأخطر وهو هدر الدم، ولست أدري هل يسوغ القول أنها تركته اكتفاء بوعي القارئ على أساس أن اللبيب من الإشارة يفهم!! أم أنها التزمت الحكمة التي هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي، أو بدافع الاختصاص على أساس أن ذلك ينص عليه حين يوكل إلى اللجنة المذكورة (لا سمح الله) إعداد قانون العقوبات الذي سينجز هذه المهمة على وجه أكثر تفصيلاً!

ويمضي القانون إلى منع طائفة من الناس يصفهم بأنهم (غير كتابيين) من الزواج مطلقاً، ويعتبر أي عقد زواج ينشؤونه اعتداء على القانون يتيح للقاضي الحبس والتعزير بجرم التزاني مهما كان العقد موثقاً بالشهود والحب والثقة والاستقرار.
وللعلم فإن تسمية غير كتابيين هي ما يختاره عدد من السوريين لا يقلون بحال من الأحوال عن بضع عشرات من الألوف!!
مع أننا نتمنى لهؤلاء المواطنين أن يهديهم الله وينعموا بالانتماء إلى أنبيائه الكرام الذين هم مجد سوريا وفخرها وتاريخها، ولكننا لا نستطيع إرغامهم على ما لا يؤمنون، وقد أمرنا الإسلام بتركهم وما يدينون، وأننا إنما نقاتل من قاتلنا، وندعو الناس إلى الله بلا إكراه، وأي إكراه أشد من منع الإنسان من حق طبيعي في الحياة كحق الزواج من امرأة في مثل اعتقاده، ونحن نقرأ قول الله تعالى: لا إكراه في الدين، ونتلو قول الله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.

إنني أشعر بالأسى لأنني موقن أن أحداً من الذين أعدوا القانون لم يكن يقصد تخريب الأسرة ولا نشر الفوضى ولا التمهيد لهدر الدم، ولكن هذه هي الحقيقة بلا رتوش، ولا يغير منها شيئاً أن يقال إنهم لم يقصدوا إلى هذه الأهداف، وقد يكون ذلك كذلك، ولكن هذه هي النتيجة المنطقية لإعادة ربط التشريع في سوريا بسياق الردة، وهو موقف كانت له أسبابه ومبرراته التي تغيرت بالكامل منذ نحو ألف عام على الأقل!!


د. محمد حبش، (وأخيراً.. مسودة قانون للأحوال الشخصية)

خاص: نساء سورية

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon