أهل القانون: عيبٌ هذا على بلد عمره عشرة آلاف عام من الحضارة: سوريا تتراجع القهقرى من بوابات أحوالها الشخصية

يعتقد الكثير من أهل القانون في سوريا, أن قانون الأحوال الشخصية السوري المعمول به حالياً لا يتناسب ومقتضيات تطور الحياة راهناً. إذ فيه الكثير من مخلّفات التركة العثمانية, وهي مخلّفات تجاوزتها تركيا منذ قيام الجمهورية التركية ودولتها الحديثة على يد كمال أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي

, ومن تلك المخلّفات التي كانت مثار تندر في جلساتنا الخاصة في سوريا, هي نسبة الولد (في المحاكم الشرعية) إلى أشرف الوالدين ديناً في حال طلاقهما إذ ما كان أحدهما مسلماً والآخر من غير مسلم. وبدهي أن المقصود بأشرف الوالدين ديناً هنا هو المسلم.

ما سبق ذكره, كان يعتقد أهل القانون في سوريا, أنه معيب بحق بلد يرجع بعمره إلى أكثر من عشرة آلاف عام من الحضارة.. في بلد أنجب أبجد وهوز وأهدى البشرية الحرف الأول, معتبرين أن من حقهم على المعنيين في تطوير القانون السوري تجاوزه بغية النهوض بالبلد ما أمكن. لكن سيكون القانون المعمول به حالياً, بالرغم من عديد عيوبه, عبارة عن باب رحمة مقارنة بالقانون الجديد.

فقبل عامين, من هذا التاريخ شكّل رئيس مجلس الوزراء السوري لجنة, وُصفت بالسرية, أنيط بها إعداد قانون أحوال شخصية للسوريين (ما يزال مسودة لم تقرّ بعد). وقد شهد القانون قبيل إقراره الكثير من ردّات الفعل من قبل بعض الناشطين في قضايا المرأة والطفولة والكثير من أهل القانون, كما أنه أثار نقمة بعض رجال الدين المسيحي بسبب من عدم مراعاته لبعض الطقوس الكنسية, وأثار سجالاً واسعاً في أوساط النخبة السورية. حتى قيل أن بعض رجال الدين المسيحي المعترضين على الكثير مما جاء في القانون اجتمعوا بوزير العدل السوري مقدمين إليه ملاحظاتهم حول المشروع. ناهيك عن البرقيات التي أرسلت تباعاً إلى القصر الجمهوري وإلى عقيلة رئيس الجمهورية من مختلف الأطياف السورية معترضة على القانون.

اللافت في القانون الجديد, الذي نأمل فعلاً أن لا يرى النور, هو انطواءه على مواد من شأنها تفتيت بنية المجتمع السوري عوضاً عن الإسهام في لحمتها!. إذ فيه الشيء الكثير من التمييز بين المواطنين السوريين على قاعدتي المعتقد الديني والجنس, ناهيك عن استعادته لمصطلح "أهل الذمة" وذلك في المادة 38 من المشروع.

ففي القانون الجديد اعتبر مشرعه أن اختلاف الدين بين الرجل والمرأة باطل في أكثر من حالة, كما أتى في نصّ المادة 63 منه, وهي زواج المسلمة بغير مسلم حال لم تكن كتابية (يلاحظ هنا استعادة مصطلح كتابية), زواج المرتدّ أو المرتدّة عن الإسلام ولو كان الطرف الآخر غير مسلم. ناهيك عن أنه أتى في متن المادة 93 أن عقد الزواج الباطل, وفق فقه المشرّع, لا يترتب عليه مهر ولا نسب ولا وراثة ولا حقوق!. بهذا المعنى أن زواج السوري من لا أدرية أو ملحدة أو بوذية, يعتبر زواجاً باطلاً حتماً!, وهنا قمة التخلّف والعالم يعيش ما بعد الحداثة.

ومن السمات الشديدة السوء لهذا القانون, هي إحياءه, بطريقة غير مباشرة, لمصطلح الردّة, وهذا ما كنا نتوهم أننا تجاوزناه في سوريا والعالم العربي, على الأقل في العشر سنوات الأخيرة.

من جانب آخر, قد يكون غنيّ عن البيان أن هذا القانون يتناقض مع الدستور السوري الذي يؤكدّ في مواده على مفهوم المواطنة, وسواسية المواطنين أمام القانون بمعزل عن لونهم وجنسهم ودينهم. فقانون الأحوال الشخصية الجديد, يصنّف الإسلام ديناً أولاً في ما تبقى من أديان عبارة عن أديان من درجة ثانية! فبعض ما أتى في المادة 23 منه كفيل بنسف مفهوم المواطنة السورية من قبيل ذكره: - إذا كانت غير كتابية عُرض عليها الإسلام فإن أسلمت أو اعتنقت ديناً سماوياً خلال شهر واحد فزواجهما باقٍ وإن أبت أو امتنعت عن إبداء الرأي بعد إعلامها فسخ الزواج بينهما. - إذا أسلمت الزوجة وحدها يعرض الإسلام على الزوج إن كان أهلاً له، فإن أسلم خلال شهر واحد فزواجهما باقٍ وإن أبى أو امتنع عن إبداء الرأي بعد إعلامه فسخ الزواج بينهما.

أما المادة 233 فتقول: إذا ارتدّ الزوج قبل الدخول فسخ القاضي الزواج وإذا وقعت الردّة بعد الدخول وعاد إلى الإسلام خلال العدّة عادت الزوجية ولها الفسخ. في حين تنصّ المادة 234 على أن ردّة الزوجة بمفردها لا توجب فسخ العقد.

ختام القول: لم تكن تحتاج سوريا إلى المزيد من القوانين ذات الأثر الرجعي, قدر ما هي في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى قانون زواج مدني يتساوى فيه المواطنون أمام القانون بمختلف أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم ومللهم ونحلهم. وبإمكان المتدينين منهم أن يذهبوا من بعد (أو قبل) زواجهم مدنياً للحصول على بركة الشيخ (الذي يروق لهم) أو الكنيسة التي يتبعون لها. ولسنا في حاجة إلى تأكيد أن قانون زواج مدني هو وحده من شأنه إنتاج دولة مدنية تعيش العصر وتنتمي إليه عوضاً عن مفاخرتها العيش في ظلمات عصور الانحطاط.


أبيّ حسن، (أهل القانون: عيبٌ هذا على بلد عمره عشرة آلاف عام من الحضارة: سوريا تتراجع القهقرى من بوابات أحوالها الشخصية)

عن "آرام نيوز"، (6/2009)

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon