دخل الأب ساحة الدار بعد أن ترك سيارة الأجرة تنتظر أمام الباب الخارجي، وطلب من ابنة الثالثة عشر ربيعاً، أن تسرع لأنهم ينووون اصطحابها للمحكمة كي تلتقي القاضي الذي سيعقد قرانها على عريسها الكهل ( الذي يكبرها بأكثر من عشرين عاما)، فقالت له بخجل وخشية أستطيع الحضور فثيابي لابأس بها، لكنه أشار باصبعه نحو والدتها قائلا:
"لا.. قومي إلى خزانتك والتقطي أحد ثيابك الطويلة التقليدية وألبسيها لابنتك". استغربت الابنة والأم معاً وبعيون مفتوحة متسائلة رفعنها نحوه، لكنه لم يجب بل باقتضاب قال: نفذن ما أقول والزمن الصمت.. وهكذا كان.. خرجت الصغيرة تجر ذيل الثوب وراءها لتبدو أكبر من عمرها و ترفعه بإحدى يديها كي لا تطأ في أطرافه رغم نضجها المبكر، لكن البراءة لا يمكن محوها من محياها الطفولي ولا من ظفائرها الطويلة فوق ظهرها.. فطلب إليها أيضاً أن تضع غطاء للرأس يخفي شعرها الجميل ويلفع براءتها.. ففعلت.. لكن دموع الأم انزلقت فوق خديها رغما عنها.. فهي وحدها من فهم اللُعبة، لكن دورها لا يتعدى الصمت والخضوع!.. ولم تتمكن سوى من رفع يديها للسماء بعد أن غادرتها الابنة مع والدها قائلة: "روح ربي يحاسبك على جريمتك"، خرجت الصغيرة تنفذ حكم الاعدام بحياتها طائعة لاتدري أين تساق.. وفي داخل السيارة كان المحامي العتيد شقيق العريس ينتظر بنفاذ صبر، فقد رفض القاضي السابق المناط بعقد القران عندما قرأ عمر الرجل المختار لزواج الفتاة ورأى الفارق الشاسع أن يقوم بمهمة جُرمية بجدارة، لكن الأخ المحامي انتظر مدة وجيزة لتناط المهمة بقاضٍ آخر تربطه به صداقة حميمة ويمكنه أن ينفذ المهمة المطلوبة، وهكذا حصل، فقد أُجل عقد القران حتى ظهور القاضي الجديد، ــ والذي يبدو أنه يحمل نفس جينات اللجنة السورية التي وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية "العار" ــ وبتواطؤ تام مع الأب المجرم الأول في القضية.
حملوها إلى المحكمة مطأطئة الرأس لتجيب القاضي الذي رأى في ثوبها حجماً يستحق أن يمارس النكاح الشرعي ويمكنه أن يقوم بمهمة الزواج وبمسؤولية الأسرة من حمل وولادة وعمل، فقد تكفل ثوب الأم وغطاء الرأس بإتمام الصفقة، والتحايل على القانون وإثبات أن حجمها ونضجها المبكر يكفي لأن تكون زوجة لرجل كهل تولده يحمل نفس التاريخ لمولد والدها الذي يجرها لحتفها لأن الزوجة الجديدة التي دخلت البيت لتصبح ضُرة لأمها أشارت عليه بالتخلص من بنات الزوجة الأولى "القديمة" ليخلو لها الجو وتتفرد بإدارة دفة البيت، فالزوجة القديمة مسكينة وبسيطة ويمكن إهمالها والتلاعب بمصيرها، وهكذا كانت ابنة الثالثة عشر ضحيتها الأولى.
ليست هذه القصة من اختراع الخيال، ولا من صنع الابداع الأدبي ولا الخيال العلمي الفضائي المستورد من عالم التقدم الفضائي، بل هي محض واقع معاش وحي ناطق، وصاحبتها تحمل نفس الجذور والدماء التي أحملها، نعم هي ابنة ماض قريب، لكنه يتكرر يومياً في بلاد الفقر الإنساني والقانوني والثقافي، هي قصة لواحدة من بنات (....).
هي صورة تنطق وتصرخ بوجه من يسمح له ضميره الميت أن يكون عضوا في لجنة تضع مشروع العار لقانون الأحوال الشخصية السوري، والذي انتظرته نساء الوطن عمراً ورفعت من أجل انصافهن العرائض ونشرت الآراء والمواقف ورويت الحكايات والشواهد على مدى الجرم والظلم والإجحاف الواقع على نساءنا، نصف المجتمع وقنطرة بنائه ونواة أسرته وأساسه المتين، والذي لن يقوم ولن ينهض ولن يتمكن من التطور والوصول لأي نتيجة حضارية طالما أنه يقوم على التمييز بين الجنسين ويفضل الجنس الذكوي ويجعل منه قواماً على المرأة بكل شيء، ويملك الحق في تسيير دفة الحياة، يمنحها للتفوق الفحلي الذكوري ويحرمها ويمنعها على الأنثى المرأة باعتبارها الضلع القاصر الأعوج والعقل الأضعف الأهوج والذي يمكن التلاعب به حيث تتحكم به مشاعره وعواطفه وأمومته أي أنه الأكثر إنسانية ورقة وأخلاقاً في التعامل والسلوك، حين يوجهون النقد للمرأة ويغمزون من قدراتها في وجه يمكنه أن يكون سبة ولعنة عليها حسب اعتقاداتهم المشبوهة والمشوهة للحقيقة، لكن هذه النقاط هي لمصلحتها وبدلا من أن تكون مذمة وسبة فإني أرى فيها صفة رائعة تزيدها رفعة وسموا وقيمة ــ وعلى رأي المثل الشعبي.. ( جاءوا يعيرون الورد فقالوا له: يا أحمر الخدين)!، وبفضل قانونهم الطالباني الجديد، شرعوا لأنفسهم حق منح الحياة والحكم بالموت على المرأة بالذات، أختهم وابنتهم وزوجتهم.
هذه اللجنة التي اختيرت دون أن نعلم ماهي مواصفات تميزها وتفردها التي تتمتع بها لتصبح من يمسك بأنشوطة الحبل فوق رقاب النساء أولاً، وفوق رقاب العباد بشتى أنواعهم وأجناسهم وانتماءاتهم المذهبية ثانياً.
كان الأمل يحدوهن في سوريا، حين رفعن مشروع قانون يحق من خلاله للمرأة أن تمنح الجنسية على الأقل لأبنائها، حين تتزوج بغريب عن الوطن، كان الأمل يحدوهن بأن يتغير قانون الموت بحق المرأة وتنصفها عدالة بلادها فتعاقب قاتلها تحت يافطة الشرف، كما يعاقب أي قاتل وأي شحص يحسب نفسه القاضي والحاكم الناهي، الذي يحق له أن ينهي حياة من كتب عليها أن تكون أخته أو زوجته.. فيضع حداً لحياتها.. ومازالت هذه القوانين تعيث فسادا وتنشر رعبا متواصلا وتقتل دون حسيب أو رقيب، ويخرج القاتل ويعيش حياه طبيعية ويجد من ترضى أن تشاركه حياته وينجب وتستمر دورة الحياة وكأنه لم يفعل شيئا، بل يُمنح شهادة شرف وبطولة!، وكأنه ملك راية التحرير.. وكيف نحرر الأوطان من عقلية وخرافة ربط الشرف الرجولي بجسد امرأة تحمله ولا تملك عليه حقاً؟!.
ثم جاء القانون الجديد المنتظر، ــ ( أنصحكم بالعودة لمشروع القانون المنشور على صفحات موقع نساء سوريا ) ــ ليعيدنا إلى عصر الحريم وليجعل من سوريا دولة (طالبانية) بجدارة.. هذه البلاد صاحبة الدعاية (..) بأن لها حزباً يقود الدولة والمجتمع ويحمل راية العلمانية!!!..
فأي علمانية في قانون يبيح زواج القاصر؟ واية علمانية في قانون يبيح زواج المُغتَصِب من المُغتَصَبة؟ وأي قانون ينشر الطائفية والتمييز على أساس المذهب؟ (...). فحين يفرق القانون بين درزي وعلوي، بين مسيحي وموسوي، بين سني وشيعي، فهل هو قانون وطني يساوي بين أبناء الوطن الواحد ويعدل بينهم؟ أم أنه قانون طائفي بامتياز؟ حين يجعل للدرزي محكمته، وللمسيحي محكمته، وللمسلم محكمته، فهل نحن مواطنون نعيش تحت سقف وطن واحد؟ هل نتساوى في الميراث والطلاق والزواج والموت؟ لا أبداً بل لم يقتصر على هذا الشأن، وإنما سمح قضاة العسف واضعي قانون أفغانستان الطالباني للمسيحي أن يتزوج بامرأة ثانية.. وبهذا يدخل الإسلام من أبوابه العريضة، أبواب الأسلمة بالزواج من ثانية.. أبواب توحيد المواطنين تحت يافطة مذهبية واحدة ربما هذا مايقصده أعضاء اللجنة الموقرة!.
في الوقت الذي يتكاثر فيه سكان سورية ويتضاعف عددهم كل عشرين سنة بشكل مذهل لا يحتمل ولا يتناسب مع مقدرات البلد ولا مع اقتصاده المتدني وضعف ثرواته ونفاذها بشكل مضطرد ونتيجة حتمية لكثرة التزاوج وتعدده، فبدلاً من تحديد النسل والانجاب، ومنع الزواج بأكثر من واحدة كحل هام وأساسي من أجل الحد من التكاثر والخوف من المستقبل المرعب في سوريا، يسمح القانون الجديد بالزواج من أربعة لمن ينضوي تحت يافطة الإسلام، ويمنح الحق للمسيحي بالزواج من ثانية لو مر على الزواج ستة أشهر دون أن تعترض أو تكتشف زوجته الأولى هذا الزواج!!
هل هناك حكمة وفهم ودراسة للوضع الإنساني والاقتصادي أكثر من هذه اللجنة المحنكة والخبيرة والمختارة لفهم الأوضاع وتلافي المشاكل وحل القضايا الملحة للوطن؟!
(...)
هل من يطالب بتوحيد القانون والمساواة بين المواطنين أمام قانون واحد يَجمع ولا يفرق، يُوحد ولا يُميز بين طائفة واخرى وبين حق من ينتمي لهذا المذهب أو ذاك في الزواج والطلاق والميراث، طالما أن معظم الطوائف كالدروز والعلويين والاسماعيليين والشيعة كلها فروع من أصل واحد يسمى الإسلام، وطالما أن بقية الطوائف المسيحية من أرثوذكسية وبروتستنتية وكاثوليكية وآشورية وغيرها كلها تحت يافطة المسيحية وبقية صغيرة من الطائفة الموسوية، والجميع ينتمي لأديان سماوية معترف بها وتعتبر من أهل الكتاب.. أي أنه يحق للمسلم والمسلمة والمسيحي والمسيحية التزاوج والتصاهروالحصول على نفس الميراث، ولا يوجد أي نص أو آية قرآنية تمنع مثل هذا التزاوج والتصاهر، وإنما مجرد رؤية وتعارف وضعته الدولة العثمانية ومازال يعمل به ولا يستند لنص شرعي..
نريد قانونا واحداً موحداً دون تمييز بين طائفة وأخرى، قانونا غير طائفي قانوناً لاينتمي لعصر الحريم ولا لسلفية آل طالبان..
فهل ما نطالب به كثير (...)؟
ارفعوا أيديكم عن كاهل المواطن وعن التمييز بين المواطنين وعن اضطهاد المرأة وإغراقها بعصر العتمة والظلام أيها الظلاميون.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon