يعود أفلاطون في الكتاب الخامس من "الجمهمورية" لمناقشة الموضوع الذي طرحه على نحو عابر في نهاية الكتاب الرابع وأعني به "شيوعية النساء والأطفال" ـ وهو هنا يطرح فكرته عن المساواة بين الجنسي، فهو يتصور أن "الرجال كلاب حراسة ترعى القطيع" والنساء مثل إناث كلاب الحراسة، عليها أن تسهر كالذكور على حراسة القطيع. ومعنى ذلك أن على الجنسين أن يقوما معاً بالحراسة. والحراس هم الجهاز المحرك للدولة ذاتها، إنهم "روحها" فهم الذين يدافعون عنها، وهم أيضاً الذين يديرون شؤونها، ففي المدينة الأفلاطونية ـ وهو أمر طبيعي في الدولة القديمة ـ لا يوجد فصل بين السلطات، فأولئك الذين يحكمون ويمسكون بزمام السلطة وقت السلم هم أنفسهم الذين يدافعون عن الدولة وقت الحرب. ومن هنا فقد شغل أفلاطون نفسه باختيار هذه الطبقة وتعليمها. وهذا الاختيار الدقيق سيجعلنا نغفل أمر التفرقة بين الجنسين، فيما يقول الكسندر كوريه ـ فمع أن المرأة بصفة عامة أضعف من الرجل، فإن هذا الاختلاف ليس اختلافاً في الماهية. لكن إذا كنا سنفرض على النساء نفس مهام الرجال، فإن علينا أن نعلمهن نفس التعليم (451هـ مجلد 2 ، ص 304). وإذن فمن الضروري أن تأخذ النساء بنصيب من التعليم، ومن فن الحرب، وأن يعاملن نفس معاملة الرجال من حيث التربية البدنية، والموسيقية، والوقوف عاريات بغير حرج، وربما بدت هذه الاقتراحات غريبة لمخالفتها للمألوف (452 أ ـ ص 305) ولا سيما قيام النساء بالتدريب وهن عاريات تماماً مع الرجال في حلبة الرياضة، ولا أعني بذلك الصغيرات منهن فحسب، وإنما أعني المتقدمات في السن أيضاً. وليس لنا أن نخشى سخرية الساخرين لا في تربية النساء بدنياً، ولا في تربيتهن الموسيقية والذهنية وتعويدهن حمل السلاح وركوب الخيل. (452 ـ ص 30). ويعتقد أفلاطون أن سخرية الساخرين هنا تخلف "فالأغريق سيدركون أن ذلك هو الأفضل لهم" (452 ء). لكن علينا أن نبحث أولاً عما إذا كانت "الطبيعة البشرية للمرأة تسمح لها بمشاركة الرجال في عمالهم، أم أنها عاجزة عن القيام بأي عمل من هذه الأعمال".. (453 أ). الحق أن الاختلاف بين طبيعة الرجل وطبيعية المرأة لفظي فحسب، فإذا كان من الضروري أن تتولى الطبائع المختلفة مهام مختلفة، فلسنا هنا أمام طبيعة للمرأة تختلف عن طبيعة الرجل (454 أ). إنك إذا ما جردت المرأة، كما قال ليكورجوس من قبل، من جميع مشاعر الرقة والضعف، وخصائص الأنثى عموماً كالشعور بالخجل من العري أمام الرجال أو الشعور بالحب تجاه رجل معين، أو مشاعر الأمومة نحو أطفالنا.. الخ. فلن يكون بينها وبين الرجل من اختلاف سوى أنها تلد والرجل ينجب. لكن ذلك لا يشكل فارقاً في "طبيعة المرأة" بحيث يجعلها مختلفة عن طبيعة الرجل ـ وليست تلك وظيفة خاصة بالمرأة أو الرجل. بل إن علينا أن نبحث لهما معاً عن وظائف أخرى. فإذا كان من المسلم به أن الرجل يقوم بإدارة الدولة والدفاع عنها، فسوف تكون مشكلتنا البحث عن وظيفة مماثلة للمرأة. وينتهي أفلاطون إلى أنه لا يوجد في الحياة المدنية وظيفة ولا عمل تختلف في أدائه طبيعة الرجل عن طبيعة المرأة (455 أ) وإذا ما تقلصت الفروق والاختلافات من الرجل والمرأة، فإن الفارق بينهما يكاد يتلاشى حتى يصبح كالفارق بين رجل ورجل "بين الأصلع وذوي الشعر من الرجال" (454 مجلد 2 ص 308). ومن ذلك كله يتضح لنا أن ليس في إدارة الدولة من عمل تختص به النساء وحدهن من حيث هن نساء ولا الرجال وحدهم من حيث هم رجال، وإن تكن المرأة في كل شيء أدنى قدرة من الرجال.. (445 عـ ـ ص 309). تلك هي بإيجاز الخطوط العريضة في فكرة المساواة الشهيرة التي طرحها أفلاطون في الكتاب الخامس وهي الفكرة التي دار حولها نقاش طويل بين الباحثين، أكان أفلاطون يريد حقاً تحرير المرأة؟. وهل نادى بالمساواة بين الجنسين فعلاً؟ أهو رسول الحقوق النسائية في العالم القديم؟ أكان وراء المساواة التي تحدث عنها، دافع إنساني يشعر بعزلة المرأة وقيامها بأعمال تافهة كالغزل والنسج مع أنها قادرة على الخلق والإبداع وقت السلم، والكر والفر وقت الحرب؟. هل نادى بعتق المرأة من سجنها وتحرير (الرئة المعطلة) ـ نصف المجتمع الذي سجنه الرجل ظلماً في قاعات الحريم؟. انساق بعض الباحثين وراء كلمات أفلاطون، وأخذوها بحرفيتها، فذهب بعضهم إلى أن "رغبته في المساواة بين الجنسين كانت احتجاجاً ضد المجالات الضيقة المنغلقة التي انعزلت فيها المرأة المعاصرة له في المجتمع الأثيني، وهو بذلك قد استبق حركة تحرير المرأة". ولست أدري كيف يقال أن أفلاطون أراد تحرير المرأة التي هي نصف المجتمع، في الوقت الذي سكت فيه تماماً عن المرأة في القاعدة الشعبية العريضة، فلم يتحدث عنها قط، مع أنها هي التي تمثل أكثر من نصف المجتمع حقاً؟. إننا حتى إذا سلمنا جدلاً بأن أفلاطون نادى "بتحرير المرأة" فإن ذلك لا يصدق إلى على طبقة الحراس ـ وهي أقل الطبقات عدداً، فهي الصفوى الأرستقراطية في المجتمع "ولا يمكن أن تمثل المرأة فيها نصف المجتمع بحال". بل إن أفلاطون عندما تحدث في محاورة "القوانين" عن نصف المجتمع لم يكن يتحدث عن "تحرير المرأة" بل عن اشتراكها في موائد الطعام، أو الوجبات المشتركة فحسب، وذلك عندما كان الأثيني ينحو باللائمة على الأسبرطيين لأنهم جعلوا "الموائد المشتركة للرجال دون النساء، مع أن ترك النساء بغير تنظيم لا يمثل نصف المشكلة بل هو يضاعفها لأن استعدادها الفطري إلى الفضيلة أقل بكثير من استعداد الرجل" (871 أ ـ مجلد 4 ـ ص 369). ولعل هذا ما دعا "ديموندلي" إلى أن يتشكك في سير الحجة كلها فيقول: "المرء ليعود فيتشكك في دور المماثلة الكاملة التي يطلبها أفلاطون من الجنسين، فاستبعاد الاختلافات الفسيولوجية على أنها غير ذات أهمية، وتجاهل الاختلافات السيكولوجية التي تتضمنها، يجعلنا على حافة الخطر الذي ننزلق منه إلى تجاهل المميزات الخاصة بالمرأة.."). في حين أن تسلسل الحجة بسيط للغاية فهي تبدأ، بإيجاز شديد، من كراهية أفلاطون الميتافيزيقية للمادة بصفة عامة، وللجسد بصفة خاصة، وقد جعلته هذه الكراهية يتجه في بناء الدولة الفاضلة إلى خلق طبقة من الحكام ومساعديهم (أي الحراس) تكون أقرب إلى "الفيلسوف الزاهد" الذي يسعى، قدر الإمكان، للتحرر من البدن ومطالبه، ويحتقر شؤون هذا العالم المادي ويكرس لخدمة الفلسفة وتحقيق العدالة. لكن ذلك لا يكون إلا إذا نزعنا عنه عوامل الأنانية وبذور الشقاق، وذلك بتحريم الملكية الخاصة. لكن ذلك يؤدي في الحال إلى إلغاء الأسرة: "فالقضاء على الملكية الخاصة يعني أن الرجل لم يعد بحاجة إلى وريث شرعي معلوم النسب، وهكذا يمكن للمدينة الفاضلة أن تقضي على الاحتكار الجنسي للنساء الذي كان بدوره مصدراً للشقاق والنزاع بين الرجال". وإذا لم تكن هناك أسرة، اختفى الدور التقليدي الذي كانت تقوم به المرأة. لكن لا بد لكل فرد في مدينتنا الفاضلة من وظيفة واحدة تناسبه، فلا بد إذن من البحث للمرأة عن وظيفة غير وظيفتها التقليدية، وليس أمامنا في هذه الحالة سوى أن نحيلها إلى رجل لتقوم بنفس وظيفته!، لكن ذلك يحتاج إلى قليل من الإيضاح: علينا أن نقوم بتربية المواطن، والتربية تعني إعداده لوظيفة واحدة فحسب تؤهله لها قدراته وإمكاناته. ونحن الآن نقوم على "تربية الحراس"، فليس ثمة أب يقوم بهذه التربية، وإنما على الدولة أن تتولى مسؤولية الأب لأنه لم تعد هناك أسرة. وإذا كان العرف قد جرى، أن يعد الرجل للسياسة والحرب، فما هي الوظيفة التي يمكن للمرأة أن تقوم بها بعد إلغاء الأسرة؟. لا يمكن أن يقال أن هذه الوظيفة هي الإنجاب وإلا لقصرنا دور الرجل هو الآخر على هذه العملية فهو شريك فيها. فضلاً عن أن فترات الإنجاب قليلة "ومحدودة إذ تحددها الدولة بدقة وفق خطة سكانية حتى لا يزيد عدد السكان ولا ينقص إذ لا بد أن يظل عدد المواطنين ثابتاً بقدر الإمكان". (460 أ ـ مجلد 2 ص 315). وكل طفل يولد خارج هذه (التدابير المحكمة" سيعد "لقيطاً" (461 ب ص 317). ثم تتولى الدولة بعد ذلك الإشراف على الأطفال، إذ يعهد بهم إلى هيئة تتولى شؤونهم إما من رجال أو نساء أو من الجنسين، ما دام المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء (460 ب ص 315). وهكذا نجد أنه ليس في استطاعتنا أن نقول أن الوظيفة التي نبحث عنها للمرأة هي الإنجاب فتلك شركة مع الرجل، ولا هي "الإشراف على تربية الأطفال" إذ قد يكون ذلك من اختصاص الرجل أيضاً. كذلك لا يمكن أن نقول أن وظيفة المرأة هي الأمومة، فليست هناك في الواقع "أمومة" بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فأفلاطون يقول بوضوح: "عندما تمتلئ أثداء الأمهات باللبن ينقلن إلى دار الحضانة، مع اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بألا تتعرف الأمهات على أطفالهن.." (460 أ ـ مجلد 2 ص 316). فإن لم يكن في وسع الأمهات أن يرضعن، فلا بد من إيجاد مرضعات، ومن الواجب تحديد الوقت الذي تقوم فيه الأمهات بالرضاعة بحيث لا يقمن بالسهر على الأطفال، "لأن هذه وغيرها من شأن المربيات والخدم" (460 حـ ـ ص 316). وليس في استطاعة المرأة، بعد ذلك كله، أن تتفرغ للأمومة. وذلك "لأن لدينا من التدابير ما يجعل الأمومة أمراً هيناً بالنسبة إلى نساء الحراس" (460 ب ـ ص 316). فهي إذن ليست وظيفة مستقلة يمكن أن تقوم بها النساء لأنها لا تحتاج إلى تفرغ كامل. ومن ثم فلا يمكن تعريف المرأة بدورها التقليدي الذي ارتبط بالأسرة والملكية. ومع ذلك فلا بد أن يكون لكل فرد في دولتنا المثالية وظيفة يعرف من خلالها: فهذا نجار، وذاك حذاء، وثالث طبيب.. الخ. فماذا نقول في أمر المرأة التي أصبحت بغير وظيفة؟. ألسنا في موقف سوف يؤدي إلى هدم التربية، ومن ثم انهيار الدولة من أساسها؟. فما الذي يمكن أن تقوم به التربية إن لم تستطع إعداد المرأة لوظيفة بعينها..؟. علماً بأنه توجد بيننا، نحن البشر، فروق كامنة تجعل كلاً منا صالحاً لعمل معين. (370 مجلد 2 ص 212). فما هو العمل الذي يناسب المرأة أكثر من غيره، واضعين في ذهننا أن الوظيفة التي يختص بها الفرد سوف تشكل كل حياته ـ وعلى ذلك فإن النجار الذي يفرض عليه الطبيب نظاماً صحياً طويل الأمد سيقول حتماً إنه ليس لديه من الوقت ما يسمح له بأن يكون مريضاً، إذ لا يمكن أن تكون وظيفته في هذه الدنيا أن يكون مريضاً. فلا جدوى من حياة لا يتفرغ فيه الفرد لغير المرض، ويتجاهل خلالها العمل الذي يتعين عليه أداؤه". (406 هـ مجلد 2 ص 255). وهكذا ينصرف عن هذا الطبيب ويعود إلى حياته المعتادة، فيستعيد ما فقد من صحة، ويحيا لعمله ومهنته، أو يخلصه الموت من جميع متاعبه (406عـ )، فوظيفته هي حياته إذا تعطلت كان الموت أهون من الرقاد بغير عمل. عدنا مرة أخرى إلى السؤال نفسه من جديد: ما هو عمل المرأة الذي يكون بمثابة حياتها؟. لقد قطعنا الروابط الأسرية كلها فلم يعد للمرأة في طبقة الحراس علاقة برجل جزئي معين ولا أطفال ولا منزل "فليس لواحدة منهن أن تقيم تحت سقف واحد مع رجل بعينه منهم، وليكن الأطفال أيضاً مشاعاً بحيث لا يعرف الأب ابنه، ولا الابن أباه..". (457 ب مجلد 2 ص 312). وتلك نتيجة مترتبة، على إلغاء الملكية الخاصة التي هي سبب الشقاق والتنافر. وصلنا الآن إلى طريق مسدود بعد أن قضينا على كل الوظائف التقليدية في الأسرة، ومن ثم فلم يعد أمام أفلاطون مفر من أن يحيل المرأة رجلاً بحيث يتسنى لها أن تشغل جميع الوظائف التي يشغلها الرجل في السياسة وإدارة الدولة، وفي الحكم والتربية... الخ. لم يعد أمامه سوى أن ينظر إليها على أنها رجل، أو قل إنها لا تفترق عن الرجل إلا كما يفترق الرجل الأصلع عن الرجل ذي الشعر!. يقول ارنست باركر: "لم يعد هناك فرق من حيث النوع بين الرجل المرأة، فالوظيفة الجنسية هي كل ما بينهما من اختلاف، أما كافة وظائف الحياة الأخرى، فإن المرأة لا تعدو أن تكون رجلاً أضعف بنية، لها القدرات نفسها وليست لها القوة ذاتها..". وهكذا استطاع أفلاطون ببساطة أن يقرر أن طبيعة المرأة لا تختلف عن طبيعة الرجل اختلافاً يؤثر في مساهمتها في الحياة السياسية (455 أ ـ ب مجلد 2 ص 309). أجل لا تختلف المرأة في طبقة الحراس عن الرجل لأن أفلاطون جردها من كل خصائص المرأة ودربها على الشجاعة أو "الرجولة" التي تحتاج إليها الدولة. وإذا كانت سيمون دي بوقوار ترى أن جسد المرأة هو أحد العناصر الرئيسية في تشكيلها وتحديد وضعها في العالم. فإن أفلاطون قرر إلغاء هذا الجسد نهائياً بحيث يكون فقط "آلة تفريخ" مجرد أداة للإنجاب، وهكذا أصبحت جميع الصفات التي أراد أفلاطون أن تكتسبها المرأة بعد "تحررها" هي صفات "رجولية"، كالقدرة على القتال، ومواجهة المعارك وممارسة التمرينات وهي عارية تماماً أمام الرجال، إنه يريد أن يلغي وجود المرأة بوصفها امرأة ويود أن يراها تختلط بالرجال وكأنها واحد منهم دون فارق بين الجنسين...". لم تكن كراهية أفلاطون لجسد المرأة هي التي دفعته إلى تحويلها رجلاً فهو، يكره الجسد بما هو كذلك، ولا يثق أصلاً في الظواهر الحسية التي هي ـ في أحسن الأحوال ـ ظلال للحقيقة. لكن السبب الحقيقي هو أن إلغاء الملكية الخاصة الذي أدى إلى إلغاء الأسرة، وضع المرأة في موقف غريب احتار فيه أفلاطون فأحالها إلى رجل. ولقد كان "روسو" من أوائل المفكرين الذين التفتوا إلى هذه الحقيقة وذلك أثناء هجومه العنيف على أفلاطون بسبب إلغائه للأسرة يقول: "إنني أعرف أن أفلاطون قد وضع في الجمهورية تمرينات رياضية واحدة للرجال والنساء.. وذلك لأنه بعد أن قام بإلغاء الأسرة في حكومته، لم يعد يدري ماذا يصنع بالنساء! ومن ثم فقد كان مضطراً أن يجعلهن رجالاً..".
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon