لكل شيء في الوجود بداية، وطفولة الإنسان بدايته، وهو الكائن الوحيد في الحياة الذي يعيش فترته الأولى بعطالة غريبة تجعله معتمداً في كل تصرفاته وخطواته على الغير، لذا امتازت - أي الطفولة- بتفاصيل دقيقة ومتنوعة لا بد من التعرض لها، ليتم تفسير العديد من عناصرها العاملة على خلق شخصية الإنسان في المستقبل والواقع أن ما يهمنا في الطفولة بالذات هو المستوى المؤثر في الشخصية الذي يهبها الطابع المميز في المستقبل ويستطيع أن يعي المؤثرات الخارجية التي تعمل على بلورة شخصية الطفل وصقلها من خلال المؤسسات الاجتماعية المتنوعة من أسرة ومدرسة ومجتمع، وبمساندة كبيرة من وسائل الإعلام التي تساعد في بلورة الشخصية الإنسانية، وانطلاقاً من هذا الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام سوف نتناول التلفزيون وسيلة إعلامية تساهم في نشر الثقافة والمعرفة، فهو سهل مقبول يستطيع الإنسان رؤية ما يعرضه دون مجهود وتصل به المعرفة إلى أبعد الحدود لتنفذ إلى العقول. يرى البعض أن التلفزيون قد أفسد عقول الأطفال بما يعرضه من أفلام ومسلسلات عنف وجريمة وحلقات الكرتون الخيالية القائمة على قواعد غير عملية وواقعية. لهذا عدّوا وجوده في البيت شراً آتياً من التطور الحضاري والمدنية الممتدة. فالطفل يحب الصور المعبرة ويجذبه اللون الجميل ويتفاعل مع قصص الخيال الشيقة وحكايات البطولة التي تتجسد في تلك الأفلام والمترافقة في معظم ما تطرحه مشاهد عنف كثيرة لتكون شديدة الخطورة على الأطفال. وتأثير مشاهد العنف يختلف من طفل لآخر، علماً أن الأطفال الذين يتصفون بالعدوانية والميل إلى العنف يكونون أشد تأثراً بمشاهد العنف. فمن الشائع أنها تساعد على إفراغ المشاعر العدوانية داخلهم. إلا أنه قد أثبت علمياً عدم صحة هذا الأمر. بل على العكس تؤدي هذه المشاهد في كثير من الأحيان إلى ترسيخ مفهوم (القوة للأقوى) في أذهان الأطفال. إذا نظرنا نظرة متفحصة إلى الرسوم المتحركة المقدمة لأطفالنا العرب نستطيع اكتشاف تقصيرنا الكبير في استخدام هذا الفن الخطير. فمعظم أفلام الكرتون والصور المتحركة المقدمة لأطفالنا أفلام أمريكية أو غربية الصنع والهوية. وصممت لأطفال غير أطفالنا وبعقلية غير عقليتهم. وتشجع عادات وأخلاق تتنافى مع أخلاقنا. على سبيل المثال: الساعات الطويلة التي يقضيها الطفل وهو يتابع مسلسل (البيكمون) القائم على الصراع والتحدي، وجذب الطفل إليه باعتماد تقنيات في الحركة والتصميم للأشكال الغريبة التي تجسد صور أبطال المسلسل دون تكريس أي هدف تعليمي وتربوي، لا يقدم للطفل إلا المساهمة في تشويه وتشويش ذهنيته. في نتيجة لبحث ميداني أجراه مؤخراً المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الأمريكي، تم التحذير من تزايد معدلات العنف بين الأطفال نتيجة تعرضهم لساعات طويلة من بث القنوات الفضائية وما تقدمه من مشاهد عنيفة. وأكد الإحصاء أن هناك خمسة أحداث عنف نشاهدها كل ساعة، ترتفع إلى نحو 20 أو 25 حادثاً في برامج وأفلام الأطفال. وأشار البحث إلى ميل الأطفال إلى التحول من مجرد الإعجاب بأبطال العنف في هذه القنوات إلى مقلدين أو محاكين لهم. ثم منفذين. وكثيرة هي الحالات التي أدت بأطفال لإيذاء أنفسهم. بل تطور الأمر في بعض الحالات إلى فقدان الحياة كما حدث في مصر بقيام أحد الأطفال بتقليد شخصية سوبرمان والقفز من الطابق التاسع لتودي بحياته. والأمثلة كثيرة في هذا المجال. في استبيان آخر قام به أحد المهتمين عن دور التلفزيون وأثره في حياة الطفل العراقي، خلص إلى أن معدل عدد الساعات الفعلية التي يشاهد فيها الأطفال التلفزيون لا تقل عن أربعة ساعات يومياً أثناء الدراسة، أي 24 ساعة أسبوعياً. وفي الإجازات الأسبوعية والصيفية تمتد طوال اليوم دون تحديد وقت معين. وأظهر أن 36.05% من الأطفال الذين شملهم الاستبيان يفضلون مشاهدة التلفزيون في أوقات الفراغ. بينما يفضل 6.44% منهم سماع الراديو. و13.30% منهم يفضلون الذهاب إلى السينما. و50,58% يفضلون الذهاب إلى المسرح. و11.16% يفضلون المتنَّزه. و17.60% الرياضة. و1.72% يفضلون اللعب في الشارع. ويفضل 8.15% منهم أكثر من وسيلة.
هكذا نلاحظ أن أعلى نسبة من الأطفال الذين شملهم الاستبيان يفضلون مشاهدة التلفزيون، وأن غالبية الأطفال يفضلون مشاهدة القنوات الفضائية العربية، ثم الأجنبية، ثم تأتي القنوات المخصصة لأفلام الكرتون والأفلام وبرامج المسابقات العنيفة. وأشار البحث إلى أن معظم أشكال العنف في الأفلام الموجهة للأطفال تتركز في إظهار القوة البدنية إما عن طريق استخدام أعضاء الجسم أو باستخدام السلاح.
وعن التأثير النفسي لهذه المواد العنيفة التي تعرض على الأطفال، قال البحث إن الطفل يستشعر، بحكم تكوينه الجسماني والعقلي، أنه ضعيف وصغير ولديه قدرة محدودة على التحكم بالبيئة الخارجية. لذا فهو يستمتع ويشبع رغبته ويطلق لخياله العنان في الحصول على هذه القوة من خلال التوحد اللاشعوري بما يشاهده من النماذج الشخصية التي تعكس مظاهر القوة البدنية والعقلية للبطل الذي لا بد أن ينتصر على الآخرين.
إذاَ إن ميل الأطفال إلى العنف ينجم بالأساس عن محتوى بنيوي موروث داخل الطفل إلى حد ما. وعن تأثير بيئي هو الأكبر والأخطر. وتفاعل هذين العاملين يشكل الجوهر الحاسم في الأمر.ولذلك من غير الجائز أن نغمض أعيننا عن حقائق ووقائع قائمة. والتجاهل سيوصلنا إلى طريق مسدود قد لا نستطيع عندها أن نقدم الحلول المناسبة من تحقيق الأمان لأطفالنا وتسليحهم بالوعي والعلم لتحقيق بنيان مجتمعي متماسك وسليم.
وبرغم الازدياد الكبير في شركات الإنتاج الفني العربية، والتضخم الهائل في حجم إنتاجها، فإننا لا نكاد نجد شركة عربية متخصصة بفن الرسوم المتحركة، تخطط البرامج الهادفة للأطفال بعقلية عربية ملتزمة بقضاياها وتراثها وتقاليدها. ويعود السبب إلى النقص الكبير في الفنيين والتقنيين والرسامين في مجال برامج الأطفال عامة والرسوم المتحركة خاصة.
إن الأطفال أهم بكثير من المرافق والمنشآت والمشاريع. لذلك لا بد من استيراد التقنيات الحديثة والخبرات الفنية لصناعة سينما متخصصة في فن الرسوم المتحركة. سينما حديثة ومتطورة تنفذ نصوصاً عربية مدروسة مسبقاً بإشراف عربي فني وعلمي، لا تجاري رديء كل اهتمامه هو الربح السريع. كما لا بد من زيادة الرقابة على دخول الأعمال التلفزيونية والسينمائية الأجنبية التي من شأنها إثارة الرعب والعنف بين الأطفال للحد من تداولها. والتشديد أيضاً على رقابة كل ما يستورد من ألعاب الفيديو والسي دي لما لها من تأثير سلبي على الأطفال أيضاً. ولا بد للشركات العربية الفنية المنتجة لبرامج الأطفال من العمل على إيجاد بيئة صحية خالية من البرامج التي تحتوي على العنف. وتقديم البرامج الموضوعية والتعليمية والتثقيفية التي تحاكي البيئة والمجتمع الذي يعيشون فيه. وقد يكون من المفيد تشكيل لجان مختصة تقوم بمهمة الرقيب على البرامج المستوردة الأجنبية واختيار ما يناسب أطفالنا كي ينعموا بطفولة هادئة وبريئة، بعيدة عن تعقيدات الحياة، ومناسبة لتكوين جيل يملك ذهنية صافية، يكون الأمل لبناء مجتمع متماسك وقوي.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon