بعيونها البريئة استقبلتني عند الباب... أدخلتني إلى بيتها بعد أن استفسرت عن هويتي... اقتادتني إلى إحدى الكنبات وقالت تفضلي بالجلوس... اعادت استفسارها مرة اخرى عن سبب حضوري الى منزلها وسؤالي عنها بالتحديد... استغربت مجددا عندما قلت بانني قد جئت من اجلها هي واخوتها الصغار... هل حضرتي من اجلي انا واخوتي؟ من نحن حتى تكتبي عنا ؟ يوجد اناس كثيرون غيرنا يستحقون الكتابة عنهم... كان جوابها يشوبه التردد والخوف والجرأة في ان واحد...
"هشام ادرس وتوتو خليها تدرس" كلمات مشبعة بخوف الأم الحريصة على مستقبل أطفالها الدراسي تفوهت بها صاحب البيت الآنسة الصغيرة إيناس خميس يحيى أبو لفح، البالغة من العمر 19 عاما، والتي تدرس تخصص إدارة الأعمال في كلية العلوم التربوية ومجتمع المرأة في رام الله.
فقدت إيناس في طفولتها المبكرة أبوها قبل سبع سنوات، بعد إصابته بجلطه لازمته لمدة سنة ونصف إضافة إلى إصابته بمرض السكري، وبالرغم من الحياة المعيشية الصعبة إلا أن والدها كان يفكر في فتح كشك لبيع الحاجيات والحلويات للطالبات، قرب مدرسة البنات في مخيم الامعري التابع لمدينة رام الله في فلسطين، نام في ليلته تلك وهو يحلم بالكشك الجديد ولكنه أصيب بجلطة دماغيه في صباح اليوم التالي، والتي أدت إلى شل حركته كليا، فاغتال الموت آخر أحلامه.
أجبرت الأم على الخروج إلى ميدان العمل كمراسلة تعمل في مجال تقديم الشاي والقهوة في إحدى المؤسسات الفلسطينية المحلية، إلا ان ضغوطات الأهل والعادات والتقاليد والمجتع المحلي، منعت ام ايناس من الاستمرار في عملها، و خصوصا باختلاف نظرة المجتع اليها كونها اصبحت أرملة، فكرة مرة أخرى في كيفية إعالة الأسرة، فصارت تشتري الملابس من المدينة وتبيعها في المخيم، ولكن ثقل الأعباء عليها، جعلها عصبية المزاج، تعبه دائما، حاولت الأم أن تفتح الكشك الذي كان سيفتحه زوجها قبل وفاته، وان تعتاش من خلاله مع أطفالها الصغار، لم توفق الأم في ذلك، فأصبحت تعتمد القيمة البسيطة جدا من المخصصات التي تعطيها لجنة الزكاة في رام الله، لها ولأطفالها الأيتام.
قبل ثلاث سنوات من الآن، فقدت إيناس أمها لكي يكتمل اليتم بكل حذافيره، فتصبح يتيمة الأم والأب في آن واحد. استيقظت إيناس من نومها لتجد أمها قد توفيت بعد إصابتها بجلطة دماغيه، غادرت الام الحياة وتركت لايناس الابنة الكبرى بين أطفالها والتي كانت تبلغ من العم في حياها 16 عاما، مسؤولية اخوتها الأطفال، في اول الامر حزنت، بكت، زلزل اليتم كيانها الصغير، و عمرها الأصغر، لكنها فكرت في مصير اخوتها الصغار، فتجرأت على الحزن، و قالت في نفسها:" أنا الآن مسؤولة عن اخوتي الصغار وإذا صار الهم اشي إلي كيف بدهم يعيشو همه ".
تستيقظ إيناس في الصباح الباكر لكي توقظ اخوتها الصغار من النوم لكي يذهبوا إلى مدارسهم، فتحضر لهم وجبة الفطور قبل مغادرتهم للبيت، وعند عودتهم من المدرسة، كانوا يطالعون دروسهم بشكل سريع، حتي تأتي إيناس من الكلية التي تدرس فيها وتحصل فيها على علامات مرتفعة، ومن ثم تقوم بتحضير وجبة الغذاء لهم، ويعودون مرة أخرى إلى الدراسة، وحل الواجبات، ويشاهدون بعد ذلك التلفاز وبعدها يصل النعاس إلى احداقهم، فيخلدون إلى النوم عند الساعة التاسعة. تنظم إيناس لاخوتها جدول أعمال مكتو به يومية ودراسية تساعدهم على التفوق في دراستهم، تشتمل على كل ما ذكر سابقا إضافة إلى قيامهم ببعض الأعمال المنزلية البسيطة جدا.
تقوم إيناس بكافة الأعمال المنزلية من طبخ وغسيل وكنس ومسح وترتيب البيت بشكل كامل، دون تلقي مساعدة من أي أحد، فتطبخ إيناس مرتين في الأسبوع، و تغسل الملابس مرة في الأسبوع ، و من إحدى الطرائف التي ذكرتها إيناس خلال حديثها أنها وأثناء قيامها بغسيل الملابس وتحديدا عندما تمطر، فإنها تقوم بغسل اللازم من الملابس لأنه لا توجد مساحة لنشر الملابس التي تغسلها بعيدا عن المطر، فهي تغسل الملابس فقط عندما تطلع الشمس ولا تدري ماذا ستفعل في الشتاء؟.
الاخوة، سامي، هشام، يحيى، تقوى، ملائكة صغيرة، منهم من حدق في كتابه المدرسي، ومنهم من احتضن كتاب اللغة الإنجليزية، و اخر كان ينبطح على الأرض ويدون شيء ما بخطه الصغير في أحد دفاتره، والأخرى كانت تتهرب من الواجبات الدراسية، وتحاول جذب انتباه أخويها إليها من اجل اللعب معها، كانت تفشل بسبب تصميم اخوتها على متابعة الدراسة، ولكنها كانت تتابع المحاولة مجددا من دون كلل أو ملل علها تجد بعضا من الدقائق للعب معهم.
إيناس أصبحت أم وأخت لاخوتها الصغار فهي الوحيدة التي تعتني بهم وتقوم بتدريسهم وتضع لهم الجداول التي تنظم بها حياتهم وتسهر عليهم إذا مرضوا وينشغل بالها عليهم إذا تأخروا خارج البيت فهي أم ومربية. حاول أعمامها وأخوالها اخذ اثنين من اخوتها للعيش معهم ولكنها رفضت، فأصبحت إيناس أم صغيرة بتجارب قليلة لاخوتها الصغار.
فراس الأخ الأكبر ,والذي يبلغ من العمر 20 عاما تتطوع في جزء بسيط من دخله الصغير الذي يتلقاه من خلال عمله كمراسل يعد القهوة والشاي في إحدى الشركات المحلية، خرج سامي من المدرسة تاركا حقيبته المدرسية ودفاتره التي كانت تمتلئ بالعلامات المرتفعة إلى ميدان العمل الرجولي لكي يسد جزء بسيط من احتياجات اخوته الصغار فطلباتهم لا تنتهي ويثقل عمره الصغير توفير ما يطلبونه.
تتبع إيناس أسلوب العقاب مع اخوتها حينما يخطئون، توقظهم في الصباح من اجل الذهاب إلى المدرسة ,وتقوم بالعد حتى رقم 3، وان لم ينهض أحدهم من فراشه ,فانها تقوم بخصم جزء من مصروفهم، واذا تطور الامر وكان هنالك خطئ اكبر، فانها تقوم بحرمان من يقوم بالخطاء من المصروف لمدة ثلاثة أيام أو عدم السماح له باللعب في الحارة في الوقت المخصص له، أو اللجوء إلى الضرب في أسوء الأحوال وهي لا ترغب بذلك حسب قولها.
تربع حوض سمك صغير في إحدى زوايا الغرفة تسبح فيه اسماك صغيرة متعددة الألوان تشبه إلى حد قريب أطفال تلك العائلة التي تعيش بدون أب أو أم فهم داخل بيتهم ينالون الحنان والدفء الذي تمنحهم إياه أختهم إيناس والتي تحاول أن تتقن دور الأب والأم معا حتى لا يشعر الصغار بأي نقص وحتى تتغلب على اليتم المخيم على البيت الصغير.
لم يعرف سوى المقربون جدا بان إيناس يتيمة الأبوين، حتى زميلاتها في الدراسة وعلى مدار 3 سنوات لم يعلمن بذلك، وحتى هذه اللحظة لان ايناس لاترغب بالحديث عن نفسها ومشاكلها واحزانها ويتمها وتفضل ان تبقى نفسها في الجانب المظلم تحديدا في التحدث عن وضعها ويتمها العائلي هي واخوتها.
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon