يشكل العنف ضدّ المرأة ظاهرة مزمنة ويمثل اخطر مظهر من مظاهر انتهاكا ت حقوق الإنسان. وهو ظاهرة منتشرة في كل المجتمعات ولا تتقيد ﺒالحدود الانتروبولوجة والإقليمية والدينيّة. فكثير من الدراسات تبين أن العنف العائلي هو الخطر الأكبر الذي يهدد حياة أغلبية النساء وهو احد الأسباب الرئيسية لموتهن : وقد ظلت المرأة مهددة في صلب عائلتها ومن قبل اقرب المقربين لها اﻟﺫين يشكلون خطرا على حياتها تتجاوز نتائجه وضحاياه ضحايا حوادث الطرقات ومرض السرطان.
و في دراسة قامت بها مؤسسة الطب الشرعي الفرنسي وامتدت إلى سبع سنوات تبين أن الشريك كان متهما في 51 بالمائة من جرائم القتل التي طالت النساء.(1)
ويكفي هنا الرجوع إلى بعض الإحصائيات التي يبقى القارئ أمامها مذهلا: تقدم لنا شهرية "العالم الدبلوماسي "(2)المعطيات المفجعة التالية׃ - تقتل في ألمانيا ثلاثة نساء خلال كلّ أربعة أيام ّ - وفي إنكلترا امرأة في كلّ ثلاثة أيّـام - في فرنسا امرأة كل خمس أيام أي بمعدل ستة نساء في الشهر - في إسبانيا يقصف العنف الأسري بامرأة كلّ أربعة أيام.
ويخلص تقرير منظمة العفو الدولية إلى أن " معركة اليوم هي وضع حدّ للعنف ضدّ المرأة ″لسنة 2004 إذ أن نسبة ضحايا العنف العائلي في أوروبا هي ستة مئة امرأة يقيضن نحبهن سنويا من جرّاء هذه الآفة أي بمعدل امرأتين في اليوم. والملفت للانتباه أن العنف الأسري لا يميز فئة وطبقة دون أخري إذ أن المعتدي حسب الدراسات الفرنسية مثلا غالبا ما يكون ذكرا ذو مستوى تعليمي جامعي ويتمتع بمكانة اجتماعية محترمة ومرموقة. فمن خلال البحث في ﻫﺫه القضايا تبين أن 76℅ من المعتدين هم من الإطارات وأن 25℅ منهم يعملون في مجال الصحة والبقية في سلك الأمن.
أما في بلدان العالم الثالث فقد أبرزت الدراسات الميدانية أن 33℅ من نساء تونس و34℅ من المصريات و54℅ من الفلسطينيات يتعرضن إلى العنف الأسري (3). كما أبلغت لجنة حقوق الإنسان في باكستان أن أكثر من ألف امرأة ذهبن ضحايا " جرائم الشرف" في البلاد في عام 1999. وفي بنغلادش تصل نسبة النساء اللواتي يقتلن على أيدي أزواجهن إلى 50% من مجموع حوادث القتل.
ويتخذ العنف ضد المرأة أشكالا متنوعة من الضرب المبرح إلى تشويه الأعضاء فالي القتل. وتبعا للأرقام الواردة في تقرير جمعيّة تنظيم الأسرة التابعة للأمم المتحدة للعام 1997 والمعنون بـ "الوضع السكاني في العالم" قد تم تشويه الأعضاء التناسليّة لنحو 120 مليون فتاة في مختلف أنحاء العالم. أما بالنسبة للعنف الجنسي، فكما نعلم تتفشى ظاهرة الاغتصاب إبان الحروب والنزاعات والكوارث الإنسانية. وغالبا ما تكون المرأة الهدف الرئيسي لسادية الأطراف المتناحرة الباحثة عن كبش فداء تحمله جريرة التوترات والفوضى الاجتماعية. ففي رواندا مثلا تعرّضت نحو 500 ألف امرأة للاغتصاب إبان عمليات الإبادة الجماعيّة في عام 1994.
وفي بنغلادش، أصدر شيوخ وزعماء دينيون فتاوى تكفيرية بحق عدد من المنظمات غير الحكوميّة العاملة في مجال تعزيز حقوق المرأة. وبموجب تلك الفتاوى الهاﺫية تمّ تكفير وإذلال وتطليق عشرات المناضلات النسويات. وهذه مجرّد أمثلة قليلة على انتهاكات الحقوق الإنسانية للمرأة التي ترتكب على أيدي القوى الاجتماعية والسياسية المتطرفة، وأحيانا من قبل الدولة نفسها. وفي جميع هذه الحالات تتحمل الدولة مسؤولية جسيمة إزاء هذه الظاهرة الخطيرة. فالدولة عندما تكون غير قادرة على تامين الحد الأدنى من مقتضيات الحياة العصرية والديمقراطية تخلق مناخا سلطويا يعزز العنف ضدّ المرأة. وهو ما لاحظناه في البلدان العربية عندما وقع احتواء الحركة النسوية وتفريغها من محتواها التحرري والمساواتي وذلك بإلحاق المنظمات النسوية بالأنظمة وبالأحزاب الحاكمة وبتشكيل جمعيات نسائية صورية تردد شعارات جوفاء ولا تقنع أحدا بالانخراط فيها.
وفي بعض الحالات تكون الحكومات هي المرتكب المباشر للعنف في حالات تمسّكـها بأعراف ثقافية معينة تتناقض مع الحقوق الطبيعية للإنسان وهو ما وقع إبان الحملة الشنيعة التي قام بها نظام صدام حسين عندما أقدم على قطع رؤوس أكثر من مئة امرأة بشكل علني بتهمة "عاهرات" وفي جو هستيري من الشعارات والهتافات‼ وقد تكون الدولة مسؤولية عن انتهاكات الحقوق الإنسانية للمرأة بمقتضى القانون الدولي إذا تقاعست عن ممارسة الدأب الواجب لمنع الانتهاكات لحقوق الإنسان والتحقيق فيها والمعاقبة عليها وسن التشريعات الضرورية لتجريمها.و هذا ما نلاحظه عندما يقع عدم ملاحقة المعتدي قضائيا والقبول بسحب الشكوى وإعادة العنف مجددا إلى الدائرة الخاصة.
ونظرا للخطورة الوضع الحالي ناضلت الحركة النسائية من أجل اعتبار العنف المسلّط على المرأة في إطار العائلة وضمن العلاقات الحميمية″ شأنا عامّـا" و″مسالة سياسية". وذلك بغية تصنيفه كجريمة كاملة المعالم وليس كمجرد فعل انفعالي مثلا. وهو ما ذهب إليه الكاتب الصحفي اقناسيو رامونى مدير جريدة″العالم الدبلوماسي″ عندما دعي إلى إنشاء محكمة دولية دائمة تنظر في قضايا العنف ضد المرأة‼
و يمثل ﻫﺫا الاقتراح وقاية ضد التعتيم الإعلامي الذي نلاحظه والتكتم المطلق على هذه المجزرة الهادئة والذي يجسد بدوره "العنف الرمزي". ﻫﺫا العنف الذي يكرس قسوة الهيكلة الذكورية السائدة في عالما والذي يصنع إجماعا صامتا أحيانا وصريحا أحيانا أخرى بين الضحايا والجلادين. فالعنف الزوجي هو امتداد في مجال الدائرة الخاصة للسيطرة الذكورية المسيطرة على المجتمع كله . فالرجل العنيف يتماشى مع الإيعاز بالرجولة الذي تقدمه الأنماط الاجتماعية السائدة. فيما ضحيته تتماشى مع دورها كزوجة متفانية ومخلصة غير قادر على الدفاع عن نفسه.
فنحن نلاحظ أن ثقافتنا الأبوية التي تحيط تابو الأسرة والدائرة الخاصة بصفة عامة بهالة من التبجيل والتقديس لا تزال تعتبر " إبادة″ النساء ″شأنا خاصا" لا يمكن انتهاكه والخوض فيه. فالمخيال الجمعي يتمثل مؤسسة العائلة كواحة حب وأمان يتعايش فيها أزواج يفترض أنهم متحابين وعلى الأقل لا يؤذون بعضهم البعض ! وتبعا ﻟﻫﺫا التصور لا مجال أن تتدخل فيها سلطات خارجية ولا يمكن مناقشة محرماتها ومسائلة تناقضاتها أمام الغرباء. ويبرز هنا مفهوم تضليلي هو مفهوم "جريمة الشغف" حيث يفترض أن الحب بطبيعته يترجم برغبة في التسلط ويبرر السيطرة على جسد الآخر وعلى رغبته وعلى إرادته.و الآخر طبعا هو دائما المرأة .(4)
ويمكن تفسير هذه التصورات المؤمثلة للأسرة بكون المواطن اليوم رجلا كان وامرأة فقد كلّ سلطة على حياته الاجتماعية. فالمشاكل غدت واسعة جدا ومعقدة تعالجها مؤسسات بعيدة ومجردة: مؤسسات اقتصادية وسياسية بل وأحيانا منظمات دولية فالمنتج كان في السابق يقرر بنفسه ما الذي سينتجه. أما اليوم فاتفاقيات التجارة العالمية هي التي تحدد له ذلك. وفي نهاية المطاف فالمجال الوحيد الذي يشعر فيه الفرد أنه مازال حرّا في تصرفاته هو حياته الخاصّة أي علاقاته العائلية لأنه يعتقد وهما أن هذه العلاقات لا علاقة لها بالمجتمع وبالآخرين.
وفي هذه الظروف تكتسي العلاقات الحميمة قيمة متزايدة أكثر، لأنها تجسد تلك الحرية التي نشعر أننا حرمنا منها في مجالات أخرى وبالتالي فنحن نسقط عليها كل تطلعاتنا وترقباتنا ونطالبها بتعويض كل الخيبات التي عانينا منها. وهذا ما يجعلها محبطة في أغلب الحالات ويمثل هذا العامل أحد الأسباب المؤدية إلى العنف الأسري. و قد بينت دراسة سوسيولوجية أن الرجال عندما يبالغون في إظهار رجولتهم إنما يحاولون وهما التعويض عن عملية تغريبهم اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.(5)
الملفت للانتباه في الدراسة المذكورة هو أنّ أغلبية النّسـاء المضروبات راضيات عن ضرب أزواجهن لهنّ لماذا؟ لأن الهيكلة الأبوية التي تعطي للأب سلطة مطلقة على الأسـرة ولأيّ رجل فيها سلطة مطلقة على المرأة تشرّبها الوعي الجمعي كظاهرة فطرية طبيعية عكسها هو العجب.
العنف الزوجي كما رأينا هو ظاهرة تكاد تكون كونية بيد أن المعايير التي تمكننا من رأيا مقارنة ونقدية هي مدى وعي المجتمعات والأنظمة بهده الظاهرة ومدى فكها لجدار الصمت حولها.
وبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية لعب العامل الدّيني دورا حاسما في تبرير هده الظاهرة وفي تحويل التفاوت بين الرّجل والمرأة من واقعة ثقافية تاريخية إلى ظاهرة طبيعية لا تحتمل المساءلة والتشكيك.
فالقراءة الحرفية والنقلية للآيتين الكريمتين 43 – 35 من سورة النساء مثلا تشرّع العنف ضدّ المرأة. بينما القراءة التاريخية التي تأخذ بعين الاعتبار أسباب النزول لا تبيحه.
والجدير بالذكر هو أننا نجد تأويلات متعدّدة للآيتين. فالطبري مثلا يخصص 27 صفحة من تفسيره لشرح هذه الآيات التي أرقت الفقهاء والمفسرين.
والمتفق عليه هو أن هذه الآيات نزلت لتقرير حكم في حادثة وعدّة حوادث شكت فيها النساء- وأهالي هؤلاء النّسـوة – من ضرب الرجال لهن. والمتفق عليه أيضا هو أن الرسول (ص) نهى عن الضرب وحكم أوّل الأمـر بالقصاص عملا بمبدأ المساواة بين الجنسين لكنه تراجع وتلي آية القوامة التي أباحت ضمن حقوق الزوج″ تأديب″ المرأة في حالة النشوز.
ولعل أخر من قضى له في هذه المسألة هي حبيبة بنت زيد زوجة سعد ابن ربيع غير أنّ حكم الرجل القصاص هذه المرّة لم ينفذ إذ سبق تنفيذه نزول الآية 34 التي تبيح ضمن حقوق الرجل ضرب المرأة وتمنع العكس. وقد أمر الرسول المتقاضين بالعودة إليه واخبرهما بذلك ثم علّـق(ص) بقوله " أردنـا أمـراو أراد الله أمرا والذي أراده اللـه خيـر".
بيـد أنّ نبي الإسلام القائل بأن النّساء شقائق الرجال أضاف: " ولن يضرب خياركم". وفي هذا السياق يؤكــد لنا عالم الإسلاميات الأستاذ محمد الطالبي أن إباحة تعنيف المرأة هي إباحة كراهة أي أنها حكم ظرفي وهذا يعني أنها غير صالحة لكل زمان ومكان. ويلفت الطالبي انتباهنا لكون نزول الآية كان درءا للفتنة التي كانت على الأبواب. ويعتمد المفكر محمد الطالبي على التفسير النفسي التاريخي. فهو يرى أن الهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون في غزوة أحد والجرح النرجسي الذي تبعها كانا فاعلين في هذه القضية.
ففي تلك الفترة الحرجة تأزمت العلاقات بين الرجال والنساء في المدينة وتجلّى الصراع على السلطة بين الجنسين وهذا ما يجسده قول عمر ابن الخطاب (ر)" كنّا معشر المهاجرين قوما نغلب نساءنا فإذا الأنصار قوم تغلبهم نسائهم فأخذ نساؤنا يتأدبن نساء الأنصار".
وفي صلب الصراع كان سلاح بعض النساء المساومة الجنسية لذلك تضجر الرجال من نشوز نسائهم. فالمجتمعات التقليدية ترى في نشوز المرأة " فتنة" تفوض مقوماتها الزراعية القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. فهو اعتداء على ملكية الزّوج مثله مثل أي اعتداء على ملكية أرضه وقطعانه.
أما على المستوى النفسي فنشوز المرأة أي تمردها على سلطة الزّوج يعاش من طرف هذا الأخير كافتقاد لأمنه المادي والوجداني وكإنقاص من رأسماله الرّمزي أي سمعته ومكانته الاجتماعية.
إنها الفتنة إذن وقد أطلت برأسها تهدد الدين الوليد. فما عسى أن يفعل نبيّ الإسلام؟ لقد استطاع أن يضع حلاّ وسطا يرضي المعارضة الرّجالية التي تجسدت في عمر بن الخطاب الذي كان يترأس الحزب المعادي للنساء من جهة ويتدرج في أنسنة العلاقات بين الجنسين من جهة أخرى.
ويرى المفكر محمد الطالبي أن إجهاض الحركة النسائية التي كانت تقودها أم سلمة زوجة الرسول وتطويقها من طرف فقه القرون الوسطى هو من أشد النكبات التي حلت بحضارتنا العربية الإسلامية. لان فقه القرون الوسطي الذكوري هو الذي يعوق اليوم التحديث العام للمجتمع وللدولة. كما أن هذا الفقه هو الذي يدعم الهيكلة الأبوية التيولوجية التي لا تزال متغلغلة في صلب النسيج الاجتماعي والثقافي׃ في علاقة المواطن بالدولة، في علاقة الفرد بمجموعة الانتماء، في علاقة المرأة بالرجل وفي علاقة الراشد بالطفل.
الهوامش (1) دومنيك لوكونت ٬ جرائم قتل النساء معهد الطب الشرعي باريس 2001 (2) اقناسيو غاموني ٬عنف ذكوري العالم الديبلوماسي اكتوبر 2004 (3) عدد 214 اسبوعية الملاحظ (4) انيك هويل واخرين ٬ جريمة حب جريمة عادية المنشورات الجامعية الفرنسية باريس 2003. (5 ) حورية كبابزة ٬ فتيات وفتيان الضواحي المنشورات الجامعية الفرنسية باريس 2003
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon