المكاتيب لا تصل أمي..

 خاص: "نساء سورية" 

في ذلك الخريف، بقيت حتى الهزيع الأخير من الليل أحزم كيس ذكرياتي، وأعد أوراق الرحيل، وعند الصباح أسرجت للسفر المطايا، وهممت بالخروج من الدار العتيقة، ثم عدت إلى الوراء خطوات قليلة ممتثلا لصوت النحيب الذي كان يلاحقني من أمي وأخوتي الصغار، وحدها الأم كانت تعلم كيف سيشرخها هذا الرحيل ،وراحت تشمني كنحلة توسدت فوق زهرة برية.
كان الصغار ينظرون شزرا لهذا المشهد الذي لم يألفوه من قبل.
أطلقت ساقاي وأنا أحمل كيس ذكرياتي وأسير بترنح تحت وطأته الثقيلة، وركبت ذلك الباص الذي استمر يعوي تحت ثقل ركابه وأمتعتهم، حتى وصلنا العاصمة، وقد أيقنت أن عواء الباص لم يكن إلا بسبب كيس ذكرياتي الثقيل.
وصعدت في مطار العاصمة إلى ذلك المخلوق الغريب الذي يسمونه الطائرة، وكان هذا أول لقاء بيننا، زمجرت الطائرة ولا أدري كيف ارتفعت عن الأرض وبقيت متوجسا منها رغم قناعتي العلمية بصحة تصميمها واستخدامها، وبعد قليل بدأ شريط الماضي بالهذيان، وبدأت أفكر بما وعدت به أمي، أن أعود إليها وأنا أحمل شهادة علمية رفيعة، ثم بدأت أنسج أحلامي الوردية كيف ستجلس أمي بين نساء الحارة وتقول لهن أن أبني صار مهندسا والآن يخدم ضابطا في الجيش وعلى كتفه نجمة مذهبة، ازددت غرورا أحسست أن مقعد الطائرة لم يعد يسعني، ثم بدأت أحلق في بهو الطائرة، ولما رأيت أنها تسير ببطء خرجت منها وسبقتها لأني مستعجل للوصول والعودة كي تفرح أمي.

استيقظت من حلم اليقظة هذا على ارتاجاج هز جسم الطائرة وتمايلت قليلا ثم استقر سيرها، وأخبرتنا فتاة جميلة تلبس ثيابا أنيقة ،لكنها قصيرة جدا، (لم أشاهد فتيات قريتي يلبسن مثلها)، أخبرتنا أننا مررنا بمطبات هوائية، وشككت أن يكون سبب هذا الارتجاج هو الحمل الزائد في كيس ذكرياتي.

وصلت إلى تلك البلاد الجميلة ذات الشوارع الفسيحة والأبنية المتعالية في الفضاء، وشاهدت أنوارا تزين كل شيء، لكنني أحسست أن شوارع قريتي الترابية أكثر أمانا وأبنيتها أكثر دفئا.

أحسست بخلل في التوازن، ولعنت الساعة التي وافقت فيها على تلك المنحة الدراسية، وتمنيت أن أبقى بجوار أمي، فلا الهواء كان يكفيني للتنفس، ولا الماء كان يروي ظمئي ولا طعامهم أشبع معدتي التي تعودت على طعام أمي.

ولكنني أصريت على الاستمرار معللا نفسي أن من سبقني ودرس في هذه البلاد لم يكن أجدر مني، وأرسلت مكتوبا لأمي شرحت فيه كم هي الحياة جميلة هنا، وهيئي نفسك خمس سنوات ويعود إليك المهندس.

لم تكن قهوة السيدة كاترين لذيذة كقهوة أمي، نعم قهوة أمي، هذه القهوة التي مازالت تعشش في ذاكرتي كوشم أبدي، لقد حملت بكيس ذكرياتي، شريط تسجيل لمرسيل خليفة هذا المطرب الملتزم الناشئ وكانت الأغنية التي دفعتني للاحتفاظ به (أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي).. آه كم أعدت سماع هذه الأغنية حتى اهتلك الشريط، وكنت كلما أسمعه تحاصرني الدموع في المآقي، وأكتم غصة تشرخ أعماقي.

أذكر أنني عندما كنت في بدايات تواجدي في هذا البلد، كنت أتأمل الصبايا الجميلات، ولكنني كنت مقتنعا أن صبايا بلدتي أكثر فتنة وجمالا، فقامة كاتالين الفارعة وبياضها الأخاذ لا يجعلانها أكثر جمالا من حسناء ذات الأرداف المتوازنة والصدر المشرئب. وعيون فلنتينا السحرية وشعرها الكستنائي ليس أجمل من عيون صفية الخضراء وجدائلها الأربعة السوداء اللاتي يتراقصن فوق كتفيها في مشوارها اليومي من أمام دارنا وهي تجلب الماء من العين لمنزلها.

بقيت أبعث المكاتيب لأمي ولكن تباعدت الفترات بينهم، وكنت أخجل أن أحدثها عن النساء الجميلات، والثياب الأنيقة، والمشروبات الكحولية التي عودونا عليها في الحفلات وغير الحفلات.

كيف أقول لها أن النساء هنا لا ينتظرن أن يأتي الشاب لغزلهن، كيف أحدثها أن الشاب والفتاة يشبكان أيديهما مع بعض ويسيران في الشارع، كيف أحدثها أنه يقبلها على قارعة الطريق، لم أجرؤ أن أحدثها إلا عن الدراسة وتاريخ البلد وتفوقي ونجاحاتي الباهرة، ماذا ستقول لو عرفت أن ميرفانا كانت تنام في فراشي دون استئذاني. وماذا لو عرفت أن النساء يذهبن إلى البحر ويخلعن ملا بسهن أمام الرجال ولا يبقى على أجسادهن إلا ما يوازي ورقة التوت، أضنها لن تصدق أن هنالك شاطئ للعراة يدخل إليه النساء والرجال معا. نعم سوف تبقى تحدث نساء البلدة كثيرا، وكثير منهن لن يصدقنها.

مرت السنوات وما زال كيس الذكريات يثقل كاهلي أينما ذهبت، وأكثر ما كان يثقلني ذكرياتي مع أمي، كدت أنسى ملامحها، ولكن رائحة قهوتها ما تزال تجوب أمام أنفي، وأين أصبح الصغار وما حال دراستهم، هل يهتمون بدراسة ندى، وهل مازال سمير مشاكسا، نعم الخمس سنوات شارفت على الانتهاء ولا شك أن الكل قد تغير، نعم سيتغير ألم يقولوا أن الضيعة قد وصلتها الكهرباء، وأبو سعيد اشترى تلفزيون ويقال أن زوجة رئيس المخفر لديها تلفزيون وغسالة وستشتري ثلاجة.

صحيح أنني أهملت في كتابة الرسائل قليلا ولكن لماذا هم لا يرسلون أية رسالة لي، لقد أرسلت في الفترة الأخيرة ثلاث مكاتيب والمكتوب الأخير سألت كل واحد منهم ماذا يريد من هذه البلاد، وما زلت بلا جواب، لماذا هذا العام لم ترسل لي أمي مع عمار (ابن القرية المجاورة ) مكدوسا وشنكليش كعادتها.

سأترك لهم نبأ وساعة وصولي مفاجأة وسوف أختار الهدايا على ذوقي، ولن أنسى أن أخذ هدية لصفية، سأخذ لها شال..لا..لا..الشال سيغطي جدائلها الجميلة، إذن علبة مكياج.. لا هي جميلة بلا ذلك.. نعم سأخذ لها راديوا.. لكن ماذا سيقول والدها لو شاهده معها.. إذن زجاجة عطر وبعض المناديل.

جمعت حقائبي وكانت مثقلة بالكتب والهدايا ولم أنس كيس ذكرياتي وانتهى رحيلي وركبت الطائرة وعاد نفس الحلم يراودني، كم ستفرح أمي وهي تشاهد أبنها مهندسا يختال في شوارع القرية، وكيف سيأتي النسوة ليباركن لها، وكم سيفرح الصغار بالثياب والهدايا،..أضنهم لم يعودوا صغارا..لا شك أنهم كبروا قليلا..

كم ستفرح صفية وتضحك ضحكتها المجلجلة تلك.
سوف يأتي أبو سعيد ويقول : تعبتي وربيتي يا أم عبود، صحيح مات المرحوم وما تركلك شي لكنك كنتي أخت الرجال وتعبك ما راح خسارة.
سوف أجوب أزقة القرية لابسا ثيابي الإفرنجية، ولن أنسى ربطة العنق التي ستذكرهم بصور فريد الأطرش، سوف أسهر في مضافة أبو حسن وأبقى ليال أحدث الجالسين عن تلك البلاد.
سأذهب إلى عين الماء وأحدث الصبايا، الصبايا فقط عن تلك البلاد ونساء تلك البلاد..ولكن هل أحدثهن عن مغامراتي العاطفية...لا..سيغرن من ذلك
لا شك أن أمي ستفرح عندما تعلم إنني كنت متفوقا في دراستي وإنني قد أعود لأحصل على الشهادة العليا.
بدأت أحلق من جديد، لم تعد تسعني الطائرة هممت بالخروج وسباقها، حتى سمعت صوت الفتاة الجميلة ذات الثياب القصيرة تقول: اربطوا الأحزمة سنهبط في مطار العاصمة.
استيقظت من حلمي وأحسست أن الوقت يمشي ببطء شديد أمامي آلاف من المشاريع بحاجة إلى التنفيذ.
فورا أخذت سيارة أجرة غير أبه بالمائة والخمسين ليرة التي سيأخذها السائق والتي قد تكفي مصروف البيت لشهر تقريبا.
وكنت أحث السائق على أن يصل بسرعة قبل غروب الشمس، فلا أريد أن أصل بعد الغروب، أريد أن أرى أمي ونور الشمس مازال يلفح وجهها.

وبعد حوالي ساعتين وصلنا مشارف القرية، لقد أصبحت الطرقات إسفلتية، وأعمدة الكهرباء تتناثر حولها، وها هي السيارة تقف أمام باب المنزل، ودون أن أطلب من السائق أطلق زموره بتواصل. انفتحت البوابة الخشبية وأطل وجه صبي يافع نظر إلي وصرخ بأعلى صوته (إجا عبودي) وقفز وعانقني ثم شاهدت ندى تركض نحوي وتعانقني وتجهش ببكاء كالنشيج وسميرة ركضت هي الأخرى وعانقتني وكانت تحبس دمعة في مآقيها،نظرت إليهم ورأيت شحوبا في الوجوه وهزالا في أجسادهم، حملوا معي الأمتعة ودخلنا،... ما زالت شجرة التوت في مكانها تغطي بظلالها أرض الدار ،وفجأة سمعت صوتا كنعيق الغراب ثم رفرفة وطار منها طير كسواد الليل في أخر كانون ،...سألتهم أين أمي، نظروا إلى بعضهم، صرخت بندى وسميرة لماذا تلبسان السواد، انهمرت الدموع من عيونهم وهرعن نحوي وعانقنني من جديد، أما سمير فقد التصق بالجدار وتهادت على خديه دمعتان خجولتان..

زفرت هواء فاسدا.. وتنفست بعمق ثم أدركت أن المكاتيب لا تصل أمي..

3/2005

التالي
« السابق
الأول
التالي »

تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon