سمعنا كثيراً عن (العرس الجماعي) الذي تنظمه وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، برعاية المعهد الفني الموسيقي الخيري، ولم يترك القائمون عليه وسيلة إلا وأعلنوا عنه من خلالها، وإلى جانب الإعلان عن الشركات الراعية، هناك إعلانات بنت أحلاماً كبيرة لمئة عريس وعروس لم تساعدهم ظروف الحياة على عقد قرانهم بزواج عادي يحمي فرديتهم ويحافظ على خصوصيتهم وكرامتهم.. هؤلاء المئة قبلوا أن يُقال عنهم إنهم (فقراء) وبحاجة للمساعدة، رغم ما تحمله الكلمة لدينا من هدر للكرامة، وقبلوا التنازل عن خصوصيتهم وتميزهم.. الخصوصية التي ينعم بها الإنسان في هذه الليلة، وتميزه (العروس بفستانها الأبيض الوحيد والعريس ببدلته المميزة) رفضوا أن يكونوا أقمار الليلة وارتضوا بنجمة واحدة بين مئة نجم ونجمة.. كل هذا قبلوا به لأنهم أحبوا ولأن لكل واحد منهم قصة وهو بحاجة إلى من يعينه كي يبدأ مشوار الحياة في تأسيس أسرة. بنوا قصوراً في الخيال، لم يجدوا منها بعد أن تزوجوا إلا (براد 8 أقدام وخط تلفون دفعوا رسوم وصله وساعة بلاستيكية لا يساوي ثمنها المئة ليرة). هذا ما قدمه العرس الجماعي لخمسين أسرة، أما الوعود فكانت كبيرة وما تحقق منها أقل من قليل.. وُعدوا (ببراد وغسالة وفرن غاز وعدد من الأدوات الكهربائية وتسهيلات أخرى كثيرة) قيل لهم: (المهم أن تتزوجوا..) وأثناء مضيهم في تأسيس حياتهم الخاصة ستنتشر إعلانات الراعين وكرمهم الذي لا مثيل له، وبدل أن تدفع الشركات ثمن إعلان طرقي تتبرع لهؤلاء، فتربح الإعلان وتربح صفة أنها كريمة وخيّرة.. وهكذا يتحول هؤلاء المئة (وكل ذنبهم أنهم أحبوا) إلى مادة (يزاود الجميع عليها بالتبرعات والكرم.. والكاسب هو هذا المعلن، أما الخاسر فهو الزوج الذي اختار العرس الجماعي طريقاً لتحقيق حلمه). يقول السيد (جورج شاهين) مدير المعهد الفني الموسيقي الخيري: الهدف العام للعرس الجماعي حماية الشباب من الفساد وبناء لبنة جديدة في المجتمع خالية من الشوائب ودعم مسيرة الشباب الفقير غير القادر على الزواج من مختلف المحافظات والشرائح الاجتماعية والدينية. ثم يعود السيد شاهين فيقول: لا ينص العقد الذي نوقعه مع العروسين إلا على تقديم السهرة والمنامة في الفندق. وبتقاطع الرأيين السابقين للشخص نفسه نلاحظ حجم المفارقة الكبيرة مابين التنظير والواقع، ومابين بناء الأحلام وهدمها في أيام قليلة.. فكيف ستتحقق الأهداف الكبيرة التي يعلن عنها السيد شاهين بـ(حماية الشباب من الفساد ودعم مسيرة الشباب الفقير غير القادر على الزواج)؟ هل تتحقق هذه الأهداف العليا بتقديم (السهرة والمنامة؟) وكأن الإنسان هو مجرد لعبة.. لا بل ما يميزه عن اللعبة التي بالإمكان تحريكها هو الحلم والأمل.. وعلى هذين الوترين سيتم العزف.. يقول السيد شاهين: (نحن نقدم الأمل في الزواج، نقرّب الفكرة، السهرة التي يتمناها في فندق خمس نجوم وهي حلم أي إنسان، إضافة إلى منامة أول يوم و3 أيام شهر عسل، وكل شيء إضافي من لباس وفنانين، لانجري، سهرة، مطاعم، أدوات كهربائية..). وسوف نناقش ما قاله السيد شاهين كلمة كلمة، وكان صادقاً به كل الصدق، يقول نحن نقدم الأمل وهذا صحيح لكنهم لا يحققون الأمل (نقرّب الفكرة) ولكنهم لا يطبقونها.. أما السهرة والهدايا فلنا حديث مطوّل عنها في هذه السطور..
بدأ المشوار: يقول (أ.ب): بعد الآمال الكبيرة سجلنا أنا وزوجتي في العرس الجماعي ودفعنا 1200 ثمن اشتراك، ثم طلبوا بعدها 4800 ليرة رسم تسجيل.. فهل يتوقع أحد من جمعية المفروض أنها تساعد الشباب أن تأخذ هذا المبلغ من أجل التسجيل؟ في كل الأحوال بدأنا.. ولا نعرف متى سيكون العرس، مرة يقولون بالشهر السادس ومرة بالسابع، ونحن نواجه أسئلة الأهل والناس ولا نعرف متى سيكون عرسنا.. وبالنهاية تحدد الموعد في الشهر الثامن.. ثم قالوا لنا مبروك، جاءكم دعم من مشفى البشائر، وإذا بالدعم هو تقرير طبي، تبين بالنهاية أنه ليس تقريراً طبياً بل مجرد ورقة تحليل دم وهي غير مقبولة لعقد قران، مما اضطرنا لدفع تكاليف التقرير الطبي بأنفسنا، وكانت الوعود مازالت قائمة بـ(البراد والغسالة وفرن الغاز والأدوات الكهربائية..) فإذا بالبراد هو قزم براد (8 أقدام) ولا ينفع أية أسرة.. وإذا بخط الهاتف هو (خط مستثنى من الدور وبسعر التركيب العالي) أي أن ما قدموه ليس خطاً هاتفياً وإنما (استثناء من الدور فقط..) أما فيما يتعلق ببطاقات العرس فلم تصل حتى قبل خمسة أيام من العرس، وركض العرسان في سباق مع الزمن كي يتمكنوا من توزيع البطاقات في مدة قياسية. ويقول (أ.ب) وزوجته: طلبنا 200 بطاقة زيادة، واتفقت مع زوجين لا يريدان أن يأخذا مخصصاتهما كاملة من البطاقات، ثم ذهبنا لطباعة البطاقات واكتشفنا أنه علينا دفع ثمن الزيادة (6000 ليرة) وعندما استلمنا البطاقات كان المفروض أنها مدفوعة لكن رغم هذا كتبوا عليها (تقديم طارق بن زياد)! أما ثوب العروس فتفاجأت العرائس (بموديلات تعيسة لم يقبل بها أحد وكان علينا أن ندفع ثمن أي تعديل على البدلة حتى وإن كان بسيطاً (1500 ليرة)، ثم طالبونا فيما بعد بالبدلات ليتبرعوا بها لجمعية حفظ النعمة، ومن أراد الاحتفاظ بها عليه دفع مبلغ 1000 ليرة، أي أن بدلة العرس قد كلفتني 2500 ليرة وهذا هو سعرها العادي، ولم يساعدوني بها على الإطلاق، (هكذا تقول ربى..)
لا للخصوصية: بمجرد ما وقّع هؤلاء الناس في غمرة الحب والأحلام على ذلك العقد الذي يضمهم إلى لائحة عرس الأعراس، فكأنهم وباتفاق غير مكتوب قد تنازلوا عن كرامتهم وخصوصيتهم لمجرد أنهم قالوا نحن بحاجة إلى مساعدتكم في هذا العرس.. وبهذا التوقيع فقدوا خصوصيتهم، وانضموا إلى جماعة الخمسين، جماعة ستقبل بكل الشروط وليس بإمكانها أن تعترض أو تختار.. وإذا أرادت الاختيار فعليها أن تدفع، فإن غيرت العروس شيئاً بفستانها الـ(ستوك) يجب أن تدفع، وإن غيرت زهرة بالباقة التي ستحملها عليها أن تدفع، وإن رفضت الركوب في الباص الذي حمل العرسان وكأنهم... إلى ليلة العمر عليهم أن يدفعوا.. ومن أكثر الأحداث التي قتلت خصوصية الإنسان هو ذلك الحدث الذي وزّع فيه (ثياباً داخلية نسائية) على العرائس.. (تم التوزيع رمياً بالهواء، وعلى العروس أن تلتقط الثياب النسائية الخاصة بها) وكل هذا يتم أمام الرجال والنساء والموظفين، وما إن تلتقط اللانجري حتى تبدأ لعبة المقاس، فمقاس فلانة بيد فلانة.. وتبدأ كل عروس بالتصريح عن مقاسها كي تجده في يد امرأة أخرى.. يساعدها في رحلة البحث هذه زوجها (الذي لا يعتبر زوجها إلى هذه اللحظة!) وكل هذا يحدث على مرأى من الجميع.
ليلة العمر: مع اقتراب ليلة العرس كان العد التنازلي قد بدأ، وكان التعري قد اقترب من اكتماله، تمت مراسم الزواج ودفع العرسان التكاليف، وتوجهوا بالباصات لإحياء ليلة العمر! كان بإمكان ثلاثة من أهل العريس حضور العرس وكذلك بالنسبة للعروس، ومن أراد أن يدعو باقي أفراد أسرته فعليه أن يدفع (500 ليرة) ومن ضمن الوعود التي شجعت الكثير على حضور ليلة العمر هو إشاعة وجود (الفنانين: كاظم الساهر ورويدا عطية أو أصالة..) ولكن المفاجأة كانت بعدم حضورهم. وتصف إحدى العرائس تلك الليلة.. بأنها ليلة (الذل والإهانة) وتقول جمعونا كلنا (100 عريس وعروس) في قاعة واحدة، ونحن متعبون ومرهقون ولا يوجد كرسي واحد يرتاح عليه هؤلاء المتعبون جسدياً ونفسياً.. تقول إحدى العرائس: (كان الأمر بمنتهى الذل، ففي هذه الصالة شعرنا بالبرد والجوع ولا يوجد كرسي واحد نرتاح عليه!). بدأ الجوع يفتك بهم ولم يجدوا لقمة تسكت جوعهم وتمكنهم من الصمود والهز والتصفيق الذي يتطلبه منهم برستيج السهرة، صفّوهم جميعاً على المنصة ومنعوهم من النزول إلى موائد الأكل حيث يجلس أهلهم فيشاركونهم بلقمة من هنا ولقمة من هناك، ذلك أنه كان عليهم (استقبال فلان والتصفيق خلف علان من الفنانين) كما يقول (جوزيف..) فكان لابد للعرسان أن يكونوا جزءاً من (برستيج) وزارة الشؤون الاجتماعية والمنحة التي قدمتها الوزارة يجب أن تظهر بأكمل وجه، وزيرة الشؤون الاجتماعية حضرت ولكنها لم تقدم شيئاً، جاع العرسان ولم يعطوهم لقمة تسد الرمق، (داخت عروس وأغمي على أخرى) ركض العرسان بحثاً عن لقمة تسد رمقهم ورمق زوجاتهم، وهذه المرة كان البحث في مطبخ الفندق، أشفق عليهم (الشيف) فسرّب لهم (سندويش مسبّحة من المقاس الصغير) ولم يجرؤ على إرسال المزيد. تقول ربى: (لم يكن هناك شعور أقسى من هذا عندما يذهب زوجي وأنا أراه أهم رجل في حياتي وفي هذه الليلة بالذات ليشحذ لنا لقمة نأكلها)، وتضيف: (كانت القصة كلها وهم بوهم بنوه يوماً بعد يوم حتى نغرق ولا نتمكن من التنفس إلا عن طريقهم ووقتها يتحكمون بها، بالنهاية أقول إن هذا العرس ليس تحقيقاً لحلم شاب بل ضرباً لحلمه، كل ما حدث كان شعاره اللف والدوران والكذب). ويقول (أ.ب): (كنا متعبين ومرهقين ولم نأكل شيئاً وقالوا لنا اذهبوا إلى غرفكم وسنوافيكم بوجبة العشاء، ولكن شيئاً لم يأت، حاولنا طلب الطعام لكن المطبخ أغلق وفندق صحارى بعيد ومن غير الممكن الخروج لجلب الطعام). وهكذا نام العرسان جائعين في ليلة العمر.
شهر بلا عسل! أثناء الإقامة في الفندق قالوا للعرسان: (إنه عليكم الانتقال إلى مبنى آخر قديم والسبب هو قدوم مجموعة سياحية تريد الإقامة في الفندق) وبالفعل حزموا أغراضهم وانتقلوا إلى غرف أخرى، وقالوا لهم بعد اتنهاء الأيام الثلاثة المخصصة لشهر العسل من أراد الإقامة أكثر بإمكانه هذا مع التخفيض، ولكن تبين أن هذا العرض ماهو إلا وعد جديد من الوعود الكثيرة التي ذهبت أدراج الرياح، وأثناء الأيام الثلاثة وقعت عروس ولم يسعفها أحد، وبقيت هي وآلامها أيام العسل هذه! وبعد الانتهاء تبين للجميع أن الوعود كانت كاذبة.. ولم يحصلوا منها إلا على براد صغير وخط هاتف دفعوا رسومه، أما فرن الغاز لم يصل إلى الآن وعلى ما يبدو أنه لن يصل، هذا ما حدث في العرس الجماعي، والنتيجة كما يقولها جوزيف وغيره: (نندم على اشتراكنا في هذا العرس)، ويقول (أ.ب): (تورطنا به ولو أننا انتظرنا حتى جمعنا القليل من المال كان أفضل من كل ما حدث، ولم نكتشف أن كل الأحلام والوعود لم تكن حقيقية إلا بعد أن وزعنا بطاقات الدعوة وأصبح التراجع غير ممكن، ولم يعد بإمكاننا سوى الاستمرار).
قانون وأحلام: (لا ينص العقد الذي نوقعه مع العروسين إلا على تقديم السهرة والمنامة في الفندق)، هذا ما أكده السيد شاهين وأرانا صورة العقد، ولكن إلى جانب العقد كانت تبنى يوماً بعد يوم أحلام وردية كثيرة، لم يقرأ المقبلون على العرس في غمرة الحب والأحلام شروط العرس، وتعلقوا كأي غرقى في ظروف لا تكف عن الإغراق والخنق بقشة هي العرس، القشة تحولت إلى أكوام بفعل الدعاية المعلنة وغير المعلنة وبفضل الشائعات والجرائد وما ورد بها عن مكاسب العرس الجماعي.. ولكن القانون (لا يحمي المحبين ولا الحالمين) والراغبين في أن يجتمع رأساهما تحت سقف واحد. ولكن السيد جورج شاهين يطرح قضية مهمة.. وهو (دور الراعي للمهرجان) والمقصود هنا (وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل) التي لا تنفك تسمي نفسها راعياً ومنظماً، وتضع نفسها في مرتبة المساعد والمعين للعرسان، وهي بريئة من كل هذه الصفات، ذلك أن الوزارة سابقة الذكر اكتفت بإدراج اسمها كراعٍ ولم تقدم شيئاً لا مادياً ولا معنوياً إذا ما استثنينا الدعم المعنوي الذي قدمته الوزيرة مشكورة بحضورها العرس الجماعي ومباركتها له. يقول السيد جورج شاهين: (لا يوجد أي مساعدة من قبل الوزارة، والمفروض أن يكون لهذا المهرجان ميزانية خاصة أسوة بمهرجان الزهور والبادية والمحبة، وهذا ما يحدث في مثل هذه المهرجانات في أنحاء العالم، ورغم أهمية هذا المهرجان إلا أن الرعاية تقتصر على وجود الوزير، وعلى سبيل المثال فقد دعموا العرس الماضي بـ(100) ألف ليرة سورية، لم يصل منها شيء حتى تاريخ كتابة هذه السطور). ومن المفروض بالوزارة أن تراسل هي الجهات المعنية مثل غرفة تجارة دمشق أو يكون لها مجهود شخصي في تذليل الصعوبات، ولكننا لم نجد سوى الروتين والمراسلات. رعت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل العرس الجماعي ولم ترعاه.. وضعت اسمها وسجلت العرس الجماعي ضمن رصيدها الإنجازاتي العظيم، ووزارة الشؤون هي التي يقع على عاتقها المسؤولية كاملة، وكما يقال: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
19/1/2005
( كلنا شركاء) باتفاق خاص مع مجلة أبيض وأسود كلنا شركاء
تعليقك مسؤوليتك.. كن على قدر المسؤولية EmoticonEmoticon